لم تكن نهاية السنة الفارطة عادية البتة في تونس. ولم تكن أيام عيدي الميلاد والأضحي لدي الشعب التونسي علي شاكلة أعياد السنوات الفارطة. فعلي غير المعتاد، قضت قوات الأمن التونسي وفيالق الجيش أيام عطل العيد، تحت السلاح، وفي حالة استنفار قصوي تجاه خطر بدا داهما في تونس، ومثل شرخا لحالة السكون والهدوء الظاهرة التي تعيشها البلاد مقارنة بالدول المجاورة. الحدث ليس بالاعتيادي في منظور التونسيين، الذين استأنسوا رؤية البوليس دوما من دون سلاح، والجيش في مهام غالبيتها مدنية لا تتجاوز استصلاح الأراضي الصحراوية أو تعبيد الطرقات في المناطق النائية. فالمعارك العسكرية والقتال بين الميليشيات، تنحصر في ذهنية التونسي، قصرا، في عدد من الفضاءات الجغرافية المتفاوتة في البعد، اعتقادا، ولو في خطأ في التصور، في استحالة انتقال مثل تلك المشاهد المبثوثة عبر وسائل الاعلام الي الأرض التونسية. علي أن الخارق للعادة بالفعل، في نظر الكثيرين من شركاء تونس من العرب ومن الأوروبيين، في أن النموذج التونسي المتجاوز لمحدودية المقدرات الطبيعية والطاقية ليحقق نسب نمو اقتصادي هائلة. تونس التي استطاعت استيعاب موجات التطرف والغلو الديني، وصد موجة انتقاله الي البلدان القريبة منه أو الي شماله، أصبحت اليوم، موضع شك ومحل اعادة تفكير. فالخبير أولفييه روي، أكد لوكالة رويترز في هذا الصدد، بأن المجهول هو تونس. في تونس من الواضح أن الحكومة تمكنت من احداث فراغ سياسي وهو ما ليس متحققا في الجزائر أو المغرب...هناك قدر كبير من الاستياء حتي بين الطبقات الوسطي العلمانية (في تونس) حاليا. لذلك اعتقد أن الطريق ممهد الآن بشكل أفضل للحركات المتشددة في تونس باالرغم من ذلك . من أين نبدأ؟ انطلقت الاشتباكات المسلحة يوم 23 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، في ضاحية مدينة بئر الباي، الواقعة علي بعد 10 كيلومترات جنوب العاصمة. عندما وقعت عملية مداهمة لمنزل قالت عنه وزارة الداخلية في تصريح رسمي لمسؤول عنها، بأنه يحتوي علي عصابة دولية تُتاجر بالمخدرات ، تكمنت من ادخال كمية من السلاح بطريقة غير شرعية . وقد قُتل من بين أفرادها اثنان من المجرمين الخطرين والمطلوبين أمنيا . غير أن هذه الرواية سرعان ما تهافتت، من جهة أن الأحداث التي تلتها، دحضتها في الصميم. هذا الي جانب حالة التعبئة غير المشهودة التي امتدت الي جميع أصقاع البلاد، ناشرة الرعب والخوف لدي جميع التونسيين، وذلك نتاج لحملة الايقافات واسعة النطاق للشباب المشتبه بأن لهم صلات بالجماعات الاسلامية أو تبدو علي ملامحهم أو في تصرفاتهم اشارات تدين معينة. وفي الأثناء، بلغت معلومات الي الجهات الأمنية، بأن العصابة المذكورة، والتي لمح الكثيرون من فيهم من هو قريب من الحكومة، بوجود علاقات مفترضة والجماعات المسلحة السلفية الجهادية الناشطة بكثافة في الجزائر المجاورة والتي تمتد الحدود المشتركة بين البلدين علي مسافة تتجاوز الألف كيلومتر، ما زالت منتشرة في أماكن أُخري، وأن بقية أعضائها يتوزعون علي مناطق مجاورة. اضافة الي كونهم في طور التحضير لعمليات مسلحة في عدد من المراكز والمنشآت العامة. واستطاعت مصالح الأمن، علي اثر الاشتباه في عدد من المواقع القريبة لمدينة بئر الباي، أن تحصر الدائرة الممكنة بين جبال مدينة قرمبالية ومدينة سليمان، والواقعة علي مسافة ثلاثين كيلومترا فقط من العاصمة تونس. وبتتبع الخيط تم حصر مجال تحرك المجموعة المسلحة. وجرتْ مواجهة تم فيها استعمال أسلحة متفاوتة التطور والفاعلية بين المجموعة الارهابية وقوات الأمن. وانتهت وفق بيان رسمي الي قتل 12 مسلحا واعتقال 15 آخرين، نافية الي حد تلك الساعة وجود علاقات وخيوط بين المجموعة سالفة الذكر والحركات الاسلامية المتطرفة. مما اضطر الصحافي الفرنسي الي التساؤل في جريدة ليبراسيون في عددها يوم 10 كانون الثاني (يناير)، هل عرف بن علي بالأحداث عن طريق ليبراسيون؟ . وكانت مجموعة مجهولة تحمل اسم شباب التوحيد والجهاد بتونس ، قد نشرت في موقع جريدة الوسط الالكترونية في لندن، بيانا يوم 6 كانون الثاني (يناير)، أعلنت تبنيها للمواجهات المسلحة في تونس، وبأنها عمدت الي هذا المنهج في ظل الاعتداء علي الفتيات المتحجبات، وذلك علي خلفية قرار الحكومة التونسية بمحاصرة انتشار ظاهرة الحجاب الذي وصفته ب الزي المتعصب والدخيل علي بلادنا وثقافتنا وتقاليدنا . وقد حذر السيد مرسل الكبيسي، رئيس تحرير جريدة الوسط الالكترونية، والذي قام بنشر البيان، من الانسياق أو التسليم بما دعا له (البيان) من أفكار أو ربما الوثوق التام بالجهة التي تقف وراءه... في حين تناقلت عديد الصحف القريبة من السلطة، عن وكالة الأنباء الرسمية، ما أسمته تكذيبا رسميا للبيان سالف الذكر، لكونه لا يعدو مجرد دعابة ثقيلة قام بها شخصان عابثان. تعتيم اعلامي كتب السيد برهان بسيس في جريدة الصباح في عددها بتاريخ 7 كانون الثاني (يناير) وهو المحسوب من قبل الكثير من رجال الاعلام بكونه الناطق شبه الرسمي للسلطة بأن ما قامت به الأجهزة الحكومية من تغييب للمعلومات هو ضروري ومهم لعملية التحقيق والأهم للاستقصاء الأمني اللاحق للامتدادات الممكنة لهذه العصابة الاجرامية . بيد أن شح المعلومات وندرتها وانتشار الشائعات بصورة سريعة، أثارت أكثر من ارتباك داخل البلاد وعند الأحزاب المعارضة. فغالبية الحقائق ظلت في وضعية انتظار أو في البعض منها متذبذبة وغير واضحة. ومثل مسرح الأحداث الأخيرة، الخاتمة لمسلسل العمليات، في مدينة سليمان أرض المواجهة المباشرة بين الطرفين محل روايات غرقت في جزء منها في بعض من التصورات الطوباوية وشريطا لقراءات متعددة، ولكن أجمعت كلها وبصفة مطلقة علي سقوط عدد من الضحايا في صفوف قوات الأمن والجيش، وقد اعتبر الدكتور عبد المجيد المسلمي، في موقع الحزب الديمقراطي التقدمي بتاريخ 9 كانون الثاني (يناير)، في هذا الشأن، بأنه ليس هنالك أي خجل في الاصداع بأن بلادنا للأسف الشديد أصبحت من أهداف المجموعات الارهابية مثلما بين ذلك الاعتداء علي الكنيس اليهودي في جزيرة جربة سنة 2002، حين قُتل 22 شخصا بينهم 14 سائحا ألمانيا. وامتدت محاصرة سيولة المعلومة، أيضا الي جملة الاعتقالات، التي تلت الاعلان عن انتهاء العمليات، وعودة قوات الجيش الي ثكناتها. اذ عبر المجلس الوطني للحريات بتونس، في بيان صادر يوم 10 كانون الثاني (يناير) عن عميق انشغاله من تزايد التجاوزات من قبل الأجهزة الأمنية ، مطالبا، بتقديم الموقوفين فورا للقضاء وباحترام الاجراءات القانونية وخاصة تلك المتعلقة بالسلامة الجسدية للمشتبه فيهم . وتعود أسباب تزايد المخاوف في قيام الحكومة التونسية، باستغلال مثل هذه الظرفية لمزيد التضييق الخناق علي العمل السياسي، المحاصر أصلا. وأطلقت مجموعة من أهالي مدينة سليمان نداء الي رئيس الدولة مطالبين باطلاق سراح أبنائهم الموقوفين خطأ، والذين لا ذنب لهم سوي ارتيادهم المساجد ولباس الخمار والجلباب الطويل علي حسب ما ورد في نص النداء. الآفاق المنتظرة في مقال له في مجلة كلمات في عددها 49، تحت عنوان تحويرات منتظرة في وزارة الداخلية لمح السيد لطفي الحيدوري الي فرضيات القيام بتعديلات قيادية هامة، علي اثر الاشتباكات نادرة الحدوث في تونس، والتي اعتبرها الكثيرون اختراقا خطيرا للأمن في بلد محكوم بقبضة قوية ومراقبة فيه كل الأشياء بما فيها الأماكن والفضاءات الخاصة. وأشار السيد الحيدوري أيضا، الي بوادر امكانية عودة مدير الأمن السابق محمد علي القنزوعي، الذي عُين منذ أسابيع سفيرا في مالطا. وهو المعروف محليا، بقسوته وصرامته في التعامل مع الملفات السياسية، حينما كان يُشرف علي ملفات المعارضة السياسية. حيث زج بغالبية المعارضين في السجون ونكل بعائلات أقارب النُشطاء. ويُعتبر من أكثر الشخصيات الحكومية محل نفور من قبل المجتمع المدني التونسي. كما أكد السيد الحيدوري علي بروز اسم عبد الرحمان علي، مدير أمن الرئاسة، كبديل للوزير الحالي للداخلية، السيد رفيق الحاج قاسم. وتوازيا مع ذلك، اختلف آخرون مع كيفية التعامل مع هذا الملف. اذ رأي عدد كبير منهم، بأن القضاء علي الحركات الارهابية ونبذ التطرف، لا يمران فقط عن طريق الأسلوب الأمني، بل يقتضي فتح حوار وطني وفسح المجال واسعا وبدون قيود أمام الحركات السياسية الديمقراطية العلمانية وهيئات المجتمع المدني وتحرير الاعلام والتلفزيون، ومحاربة الفساد والرشوة والمحسوبية، وتوزيع للثروات والخيرات بصورة عادلة، كخطوات أولي وضرورية لسحب البساط من تحت هؤلاء الذين تحرف نضالات شعبنا وقواه الوطنية والتقدمية عن قضاياه الحقيقية وعن مساره الصحيح المتمثل بالنضال من أجل الاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلادنا ، مثلما كتب الدكتور عبد المجيد المسلمي. ويري خبراء آخرون، بأن الامكانيات الكبيرة والتمويلات الضخمة التي ساندت بزوغ المجموعة الارهابية، تعود أساسا الي دعم الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية، التي تسعي لبسط سيطرتها علي كل من المغرب وتونس. ففي الجزائر، وفي نفس الفترة، انفجرت قنبلة قرب حافلة تُقل عمال نفط أجانب يوم 10 كانون الأول (ديسمبر)، مسفرة عن مقتل اثنين. وأعلنت الجماعة السلفية للدعوة والقتال مسؤوليتها عن هذا الهجوم. وفي نفس الوقت، يوم 04 كانون الثاني (يناير)، أعلنت الحكومة المغربية أن قواتها الأمنية قضت علي خلية اسلامية متشددة تُجند المتطوعين للقتال في العراق واعتقلت 26 شخصا. لا تبدو ملابسات الأحداث واضحة بشكل يُسهل عملية استنتاج خلاصات منطقية ومعقولة أو استشراف ردود أفعال سواء من قبل السلطة السياسية أو من الحركات المعارضة لها. فمعرفة الجذور الأصلية والحقيقية لظهور مثل هذه المجموعات، تساهم في القضاء علي البؤر الأصلية لها، والمنتشرة بصورة كثيفة بين الفئات الاجتماعية المحرومة من فوائد النمو الاقتصادي، حتي لا تكون تونس مثلما صرح به مسؤول أمريكي علي اطلاع علي الوضع في الشرق الأوسط تُمثل جرس انذار نوعا ما... ف دعُونا لا ننسي تونس .