نشرت مؤسسة "راند" البحثية (في ولاية كاليفورنيا) خلال الآونة الأخيرة، تقريراً إيجابياً جداً حول الجيش الأميركي التطوعي الذي أُنشئ عام 1973 ليحل محل جيش الخدمة الإجبارية الذي خاض الحربين العالميتين، وشارك في التدخلين العسكريين في كوريا وفيتنام. والواقع أن الولاياتالمتحدة لم تكن تتوفر قبل ذلك العام على جيش محترف ذي تجربة، وهو ما قد يفاجئ البعض، خصوصاً أن الأمر يتعلق بالقوة الأعظم في عالم اليوم. لم يكن عدد الجيش الأميركي في أواخر عام 1939، أي عندما ذهبت أوروبا إلى الحرب، يتجاوز 174000 رجل. وقد عُرف عن الشعب الأميركي مناوأته المستمرة ل"الجيوش الدائمة" التي كان ينظر إليها بتوجس وريبة ويعتبرها تهديداً للديمقراطية. فكان من نتائج ذلك أن سمح الدستور للولايات وحدها، وعلى صعيد فردي، بأن تتوفر على "مليشيا مقننة"، كانت عبارة عن مجموعة من المدنيين الذين يتلقون تدريباً عسكرياً، وتتم المناداة عليهم في حالات الطوارئ. وخلال الحرب الأهلية الأميركية، لم يبدأ التجنيد إلا في عام 1864، أي في العام الثالث من الحرب، ولم يكن يحظى بشعبية كبيرة في أوساط الجمهور، حيث أثار احتجاجات واسعة وأعمال شغب. ونتيجة لذلك، تم لاحقاً اعتماد قانون ينص على التجنيد أو الإعفاء من الخدمة مقابل دفع غرامة مالية. وفي عام 1917 أعيد العمل بالتجنيد بعد أن دخلت الولاياتالمتحدة الحرب، فتم تجنيد نحو 3 ملايين رجل، غير أن عدد من وصل منهم إلى الجبهة كان قليلاً نسبياً، إذ انتهت الحرب بعد أقل من عام على دخول أولى الوحدات العسكرية الأميركية (المكونة في معظمها من متطوعين) ساحة الحرب. وفي عام 1940، عندما كانت الحرب مندلعة في أوروبا، أقر الكونجرس الخدمة العسكرية الإجبارية لفترة عام متى كان عدد المجندين في الجيش دون مليون رجل؛ لكن سرعان ما تم التخلي عن هذه الشروط بعد الهجوم الياباني على قاعدة "بيرل هاربر" العسكرية في هاواي، حيث حُددت الخدمة العسكرية بفترة الحرب زائد ستة أشهر، لتصبح الخدمة العسكرية الوطنية بعد ذلك من مميزات الحياة الأميركية طيلة الحرب الباردة، إلى أن جاءت حرب فيتنام، حيث فقدت الخدمة العسكرية مصداقيتها بسبب تملص أبناء الطبقتين الغنية والوسطى من تأدية الخدمة على نطاق واسع -ممن كانت لديهم، كما قال نائب الرئيس ديك تشيني الذي استفاد عدة مرات من الإعفاء من أداء الخدمة- "أولويات أخرى"! وفي الجيش الجديد المؤلف من المتطوعين الذي أعقب ذلك، ارتفعت نسبة الملتحقين بصفوفه من خريجي المدارس الثانوية، من 58% عام 1973 إلى 81% عام 2006. وتشير الأرقام إلى أن 95% من ضباطه الدائمين أكملوا تعليمهم الجامعي، وأن 38% منهم حاصلون على شاهدة جامعية عليا. كما تضاعفت نسب إعادة التجنيد في سلكي الجيش و"المارينز" بين عامي 1969 و2004. وإضافة إلى ذلك، فإن مؤهلات الموظفين العسكريين الطبية وذكاءهم أعلى من مؤهلات نظرائهم المدنيين. وبطبيعة الحال تطغى الطبقة الوسطى وما دونها على الخلفية الاجتماعية للجنود، لكن يُلاحَظُ أن المجتمع الأميركي ممثل تمثيلاً جيداً في التشكيلة العرقية والاجتماعية للقوات المسلحة الأميركية. والواقع أن هذا هو الجيش الذي يخشى قادته حالياً أن يكون بصدد الانهيار، بسبب حرب العراق، حيث يعاني من عمليات انتشار متكررة، ومن مدد تجنيد استوفت آجالها، ومن آثار مثبطة لمعنويات جنوده بسبب أساليب المسلحين العراقيين غير التقليدية، إضافة إلى العدد الكبير من الوفيات المدنية بين العراقيين. والحقيقة أن الجيش الأميركي لم يكن مستعداً لهذه الأمور، وإنما للقتال التقليدي ضد جيش نظامي آخر، كما لم يتكيف مع الواقع العراقي بسرعة. وفي هذا الإطار، يرى مراقبون عسكريون أن جيش الولاياتالمتحدة جيش تحكمه عقيدة، وهو مُعادٍ للمبادرة الفردية. وقد أثبت ضباطه أنهم يميلون إلى التنصل من الأخطاء والجرائم التي يرتكبونها. كما تميز التعاطي الرسمي مع الانتهاكات والفضائح التي يرتكبها جنوده بالكذب والتملص من المسؤولية والتضحية بمن هم في مراتب أدنى، حيث أن أياً من كبار الضباط لم يتعرض للمضايقة أو المتابعة نتيجة لفضائح الاعتقال والتعذيب. ربما يمكن للمرء أن يتوقع أمراً كهذا من جيش يخدم إدارة منتخَبة لم تُحمِّل علناً أي مسؤول كبير فيها، أو يتحمل هو، مسؤولية العواقب الكارثية التي أدت إليها سياستها الخارجية خلال السنوات الست الماضية. لكن لا غرابة في ذلك ما دام الرئيس نفسه يبدو مستعداً لتحدي الحكم الانتخابي للجمهور الأميركي بخصوص سياساته في العراق. ومع ذلك، يُحسب للجيش الأميركي أن أبرز الاعتراضات على المعاملة القاسية وغير القانونية للسجناء، وإحالة هذه القضايا على المحاكم العليا من أجل معالجتها معالجةً قانونية، لم تصدر عن مدنيي الإدارة الأميركية، وإنما عن المسؤولين المهنيين والقانونيين داخل القوات المسلحة نفسها. غير أن ثمة بالمقابل روايات تتحدث عن مساعدات قدمها أطباء عسكريون للجلادين أثناء حصص التعذيب، مما لاشك أنها طلبت منهم في إطار عملهم، ولكنها شكلت مخالفة سافرة لقسَمهم المهني. إن التقارير حول معدات الجيش الجديدة والتنمية البشرية الممتازة لمنتسبيه، لا تغطي على الدلائل التي تفيد بوجود نقصٍ من نوع خاص في القوات المسلحة، ألا وهو نقص الشرف. ويبدو أن هذا الأمر لا يعزى لحالات الفشل الفردي فحسب، وإنما للفساد الذي ينخر المؤسسة العسكرية. ولما كان الشرف دائماً المسألة الإيجابية التي تعوض عن "عبودية" الحياة العسكرية وعنفها، فإن الأمر يدعو للتأمل والتفكير.