للسنة الثانية على التوالي يحيي فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بالمنستير ذكرى انتفاضة الخبز وذلك بمدينة قصيبة المديوني. تم إحياء هذه الذكرى هذه السنة يوم 6 جانفي 2007 في ظل توتر أمني عام بالبلاد على اثر أحداث "حمام الشط وبوعرقوب وسليمان". وقد تجمّع وسط المدينة عدد هام من المناضلات والمناضلين من مختلف الحساسيات والقطاعات وتوجهوا مشيا على الأقدام نحو المقبرة أين وضعوا باقة ورد على ضريح شهيد البلدة المناضل العامل شاكر مبروك الذي اغتيل يوم 4 جانفي 84 برصاصة في الظهر. وقد كان جميع أهالي مدينة قصيبة المديوني خرجوا وقتها إلى الشارع وشيّعوا الفقيد في جنازة جماهيرية تنديدا بالجريمة. تداول على الكلمة أمام الضريح رئيس الفرع سالم حداد مذكرا بما يرمز له شهر جانفي في الذاكرة من نضالات الشعب التونسي منذ أيام الاستعمار المباشر إلى أيامنا هذه (نضالات الحركة النقابية وصراعها من أجل الاستقلالية) وتعرّض مناضل آخر في تدخله إلى ضرورة استحضار شهداء الوطن في كل الجهات وتحويل هذا اليوم إلى يوم وطني تحييه مختلف مكونات المجتمع المدني والمطالبة بمعاقبة المسؤولين عن الجرائم ومنفذيها ووضع حد نهائي للإفلات من العقاب، وقد لاقى هذا الاقتراح استحسان الحاضرين. وغادر الرابطيون المقبرة جماعيا عاقدين العزم على مواصلة الالتقاء سنويا. أحيت بعض الإتحادات الجهوية للشغل (بنعروس، القيروان، صفاقس، سوسة، ...) ذكرى 26 جانفي 1978، وكان الإتحاد المحلي بزرمدين قد أحيى بدوره هذه المناسبة بإشراف الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل عبيد البريكي والكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بالمنستير. وقد حضر عدد مكثف من نقابيي الجهة يوم الجمعة 26 جانفي 2007 وكانت مناسبة للتذكير بأحداث قصر هلال 1977 التي نزل فيها الجيش لأول مرة للشوارع لقمع انتفاضة الأهالي وعمال معمل النسيج سيتاكس نتيجة سعي الإدارة لحرمان العمال من التمتع بفواضل القماش الذي يشغل عديد الحرفيين وتعمدها حرق ألاف الأمتار. وقد سايرت قيادة الاتحاد آنذاك الظرف وسمحت بالتحركات والإضرابات العمالية في مواجهة السلطة التي تتّبع سياسة اقتصادية ليبرالية ومحاولة فرض "العقد الاجتماعي" التي رفضه المؤتمر 14 للاتحاد سنة 1977. كما ركز الأمين العام المساعد علي أهمية شهر جانفي في تاريخ التحركات الاجتماعية إذ هو يأتي مباشرة بعد إعداد الميزانية العامة ودخول السياسة الجبائية طور التنفيذ وانعكاساتها علي معيشة الشعب. أما رئيس فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بالمنستير السيد سالم الحداد فقد أتى على ما عاشته الجهة وخاصة بلدة زرمدين من أحداث قدّمت خلالها الضحايا خاصة في معمل الأجر وحصارها من طرف البوليس والإيقافات والمحاكمات التي وصلت إلى أكثر من 100 سنة سجن في مجموعها. وذكّر الكاتب العام للاتحاد الجهوي بدوره بهجوم مليشيات الحزب الحاكم على مقرات الاتحاد. ثم فتح النقاش فكانت التدخلات ثرية ومفيدة وربطت مع الذاكرة النقابية الجماعية التي استحضرت الأحداث الأليمة بقصر هلالوزرمدين. ومن جملة التدخلات استرعى تدخل النقابي خليفة مبارك أحد مؤسسي لجنة الدفاع عن ضحايا 26 جانفي اهتمام الحاضرين. إذ علاوة على توصيف وسرد الأحداث في تلك الفترة عرّج على السلبيات والإنحرافات لحقبة التسعينات السوداء ممّا أدّى إلى تأسيس الكنفدرالية الديمقراطية للشغل لاحقا وهو ما أحدث توتّرا وتجاذبات مشحونة مع عضو المكتب المشرف على الاجتماع السيد عبيد البريكي. ومن جهة أخرى شدّ اهتمام الحاضرين تدخل الكاتب العام للفرع الجهوي للصحة السيد منذر الخلفاوي الذي تميّز بعمق التحليل والمقارنة بين تلك الفترة التي شهدت درجة عالية من النضالية والتضحية النقابية لدى الهياكل والقواعد تناغمت مع قدر كبير من المسؤولية لدى القيادة التي واكبت الإضرابات القطاعية وسايرت الإضراب العام الشهير ودافعت عن الاستقلالية النقابية بجرأة مفقودة في ظرفنا الراهن كما ركز التدخل على حق الاتحاد في المطالبة بفتح تحقيق حول أحداث 26 جانفي لتحديد المسؤوليات وعدم الإفلات من العقاب إذ أنّ كل النقابيين باتوا يعرفون جيدا من كان مدير الأمن في تلك الفترة ومن نظم الهجوم على دور الاتحاد ومن نفّذ الأوامر بارتكاب المجزرة. هذه النبرة النضالية وهذه الجراة النقابية لاقت تجاوبا في أوساط الحاضرين، لكن البوليس السياسي كان الحاضر الغائب وبلغ إلى مسامعه هذا المحتوى والتجاوب الذي لا يروق له ولأسياده فقام في نفس الليلة بمداهمة منزل الخلفاوي في جنح الظلام وتجاسر على خلع عيادة زوجته وإلحاق الضرر بها وعمد إلى توسيع دائرة الإرهاب لتشمل عائلته بمسقط رأسه بالكاف. إن الرسالة المضمونة الوصول واضحة تماما غايتها الإرهاب وفرض التراجع على المواقف والتدخلات الجريئة والشجاعة. وإذا كانت الاحتفالات بذكرى 26 ستفتح الباب مستقبلا أمام ملف الإفلات من العقاب وتحديد المسؤوليات، وهو ما وقع ذكره في سوسة أيضا، فإن إجراءات منع هذه الاجتماعات والضغط على حضورها وتحجيم التدخلات والنقاش والتقييم، أو عدم إحيائها أصلا، قد يكون الخطوة المرتقبة في السنة القادمة لسلطة استبدادية تراقب أنفاس النقابيين عبر بيروقراطية نقابية هجينة ومترددة لا تجرؤ حتى على الدفاع على تاريخها ورموزها. أما جرأة النقابيين واستعدادهم للدفاع عن منظمتهم ديمقراطية مستقلة ومناضلة والذود عن تاريخهم المجيد والوفاء لشهدائهم البررة فهو آخذ اليوم في الاتساع والانتشار، وقد نشهد صحوة نقابية جديدة ولو متعثرة في البداية، وما على النقابيين عموما والديمقراطيين منهم بالخصوص إلا المضي قدما في هذا السبيل ويكرسوا فعلا شعارهم المجيد في مثل هذه المناسبة: "شهداء 26 أحنا ليكم مخلصين". مرت سبعة أشهر على إضراب 31 ماي 2006 لقطاع الصحة العمومية الذي شنّه أعوان الصحة (فنيون ساميون، ممرضون وممرضات وعملة) دفاعا عن مطالبهم المشروعة والمزمنة (قانون أساسي خاص، منحة خصوصية، مجانية العلاج، الخ.) ورغم شهادة الجميع بنجاح الإضراب فإن الوزارة تجاهلت مطالب القطاع واستمرّت في تعنتها أثناء المفاوضات. إن نهوض قطاع الصحة بوّأه الصدارة في الآونة الأخيرة في التصدي للسياسة الصحية الطبقية لنظام بن علي التي عكسها نظام التأمين على المرض الذي يدعم القطاع الخاص على حساب القطاع العمومي، والمطالبة بتأهيل قطاع الصحة العمومي حفاظا على مكاسب الفئات والطبقات الشعبية وعلى مصالح العاملين به. لم تستثمر جامعة الصحة طيلة سبعة أشهر مستوى التعبئة النضالية التي ميّزت القطاع فلم تمدّ الهياكل الوسطى والقاعدية بالإعلام عن تطور الوضع ولا بمقترحات لمواصلة معالجته والتصدي له. متعللة بعدم ملاءمة الظروف للنضال ولخوض إضراب ثان (صيف، عودة مدرسية، شهر رمضان، وأخيرا مؤتمر الاتحاد) وعلى اثر قرار الهيئة الإدارية الإضراب عن العمل 11 جانفي 2007 حول المطالب المضمّنة في اللائحة المهنية ليوم 23 نوفمبر 2006 تجندت الوزارة والإدارات الجهوية والمحلية والسلط والشعب المهنية لتسوية مطالب القطاع وبث الإشاعات المغرضة في حق النقابيين، وهو ما خلق توترا زادته استفزازات الأعوان وتهديدهم حدّة، لكن ورغم ذلك فان التأطير المكثف والاستعداد النضالي والإصرار على إنجاح التحرك كان هو السائد لدى عامة النقابات الأساسية التي فوجئت عشية الإضراب ب"إلغائه أو تعليقه" كما يحلو للجامعة أن تعلن. فماذا حقق محضر جلسة 9 جانفي الممضى من الجامعة بين الجامعة وممثلي الاتحاد عضوا المكتب التنفيذي (محمد سعد والمنصف الزاهي) من جهة والوزارة من جهة ثانية؟ بعيدا عن روح فئوية يتفق أغلب مناضلي القطاع بمختلف ميولاتهم أن ما وقع لا يرتقي إلى مرتبة الاتفاق ولا يستجيب لمطالب الأعوان المشروعة. وكان بالإمكان بل من الضروري دعوة الهيئة الإدارية للانعقاد لتدارس مشروع المحضر قبل الإمضاء عليه. وعبّر العديد منهم عن شعورهم بالقلق إزاء عدم قدرة القطاع على استعادة جاهزيته التي وقع الاتفاق في شانها فلم تحدد آجال مضبوطة لتنفيذها وآليات لمتابعتها (ماعدا مجانية العلاج). كما أنه لا يمكن قبول التعلات والتبريرات التي تقدمها قيادة الجامعة لتقديم الاتفاق على أنه "حقق مكاسب عديدة" وأن الرافضين له "لم يدرسوه مليّا". إن القول ب"أن مشوار القطاع في النضال مازال طويلا" أو الحديث عن " وجوب إعطاء الوزارة فرصة أخرى" و"أن نوعية المطالب لا تحل بمفاوضات قطاعية" وأنه "من الضروري الحفاظ على رأس مال القطاع المتمثل في الكرّ والفرّ" و"أن الإضراب سلاح ذو حدين" وإلى غير ذلك من الذرائع، لم يقنع القواعد وخاصة الإطارات النقابية التي بادرت بإرسال برقيات التنديد والمطالبة بعقد المجلس الوطني القطاعي في أقرب الآجال لرسم خطّة نضالية مستقبلية عبر الرجوع إلى المفاوضات ووضع سقف لها. وفي هذا الإطار يطرح على النقابيين الديمقراطيين التنسيق فيما بينهم لرفض الاتفاق وتجاوز حالة الارتباك والإحباط التي بدأت تدب في القطاع. - من أجل صحّة للجميع - نعم لتأهيل قطاع الصحّة العمومية ليلبي حاجيات الشعب - لا للانفراد بالقرار "خمسون" تربح المعركة مرّتين: حرية الإبداع / رهان الإبداع 2 فيفري 2007 على الساعة السابعة والنصف مساء، المسرح البلدي بتونس العاصمة مزدان بوجوه كان لها الأثر الكبير في نحت معالم تونس المنشودة. الحدث عرض مسرحية "خمسون" لجليلة بكار والفاضل الجعايبي ورفاقهما من الذين آمنوا بحرية التعبير وحق الاختلاف ودور الإبداع في صقل الذهن والذائقة الجماعية للشعوب. "خمسون" التي أثث عالمها الركحي جملة من الشباب الحامل على عاتقه هم البلاد وأوجاع العباد، أرادوا البحث في أسباب أزمة جيل يتحرك على أرض ملؤها المستنقعات وصحراء رمالها متحرّكة يخبطون فيها خبطا عشواء بلا دليل ولا مرشد. "خمسون"، تمتد على مساحة زمنية بدايتها سنة 1956 وحدودها 2006، تسأل ماذا تأسس وماذا تقلّص؟ ماذا تحرّر وماذا تفجّر؟ شخوصها : أب مناضل يساري وأم حقوقية وشباب مرتمي في أحضان صناع حلم بائس. خمسون سنة تمضي من حكم بورقيبة إلى حكم بن علي والبلاد تزداد تعفنا والوضع الاجتماعي يزداد توترا والوضع السياسي يسير في خط أفقي مستقيم من الانغلاق والتحجر نحو غد مجهول تتقاذفه التناقضات، كل هذا والخطاب الرسمي يردد بلغته الخشبية أغنية "بلد الأمن والأمان / يحيا هنا الإنسان". "خمسون"، قصّة شعب محكوم بعصا البوليس السياسي وموثوق بسياسة المافيا، التي لا ترى في كل من يختلف معها إلاّ التهديد لمصالحها وعائق أمام مشاريعها المُبَيّتة لنهب البلاد وخيراتها. وهي قراءة لتاريخ اليسار الذي لم ينجح في الحفاظ على إشعاعه وجذوته التي كانت ملتهبة في سنوات السبعينات من جهة وهو كذلك تاريخ الحركات الأصولية التي عمّت نتاج انهيارات التجارب الاشتراكية وحالة الجزر التي يعيشها الفكر العَلْمَاني وقد ساهم في ذلك التسطيح الفكري والقِيَمِي الذي طبع الساحة الثقافية المتصحرة. هل نجح الفاضل الجعايبي مسرحيا في هذه المعالجة؟ الركح مربع نشرت عليه زربية بلون بني فاتح يتغير لونه وفق الإضاءة المسلّطة عليه، فمرّة يوحي بحصير المساجد ومرّة بأرضية غرف التحقيق. توزعت على جنباته كراسي مختلفة اللون والشكل منها المصنوع من الخشب البني في شكل تقليدي قديم في إحالة ذكية إلى العهد البورقيبي ومنها ما صنع من المعدن الأبيض والأفرشة النشافة المغطات بالجلد الأسود والتي يسهل طيها وحملها في إشارة إلى الكراسي الحديثة في العهد الراهن ويقع التداول على استعمالها كل ما تغيّر الحدث في الزمان من حقبة إلى أخرى. كما لم يكن الدخول والخروج على الركح من قبل الممثلين هيّنا على المتفرّج حيث يثير اللّخبطة والبلبلة لتقمص الممثلين لأدوار عديدة ومتناقضة لذلك لم ينجح المشاهد في بناء علاقة تواصل مع الشخوص سواء بالقبول أو بالنفور ما عدى في بعض للحظات القليلة، الأمر الذي يجعلك في حيرة من أمرك مع من ضد من يمكن أن تأخذك مشاعرك التي تودّها أن تكون منتصرة إلى القيم الإنسانية والتقدمية. لئن نجح الفاضل الجعايبي وسامي النصري مساعد المخرج في تعرية آفة التعذيب والمحاكمات السياسية وتعرية شخصية البوليس التقليدي في العهد البورقيبي الذي كان محكوما بجهله وبعقليته الأبوية وتركيبته "الميكانكية"، والبوليس الحديث المتعلم والأنيق والدارس لأساليب التحقيق والتعذيب لدى إخوته الفرنسيين والأمريكان فإنه لم يقع الحسم في إبراز الموقف من الأصوليين فالسؤال حول السلفيين يطرح العديد من المرّات بأشكال مختلفة ليبقى معلّقا. وفي محاولة للإجابة تقول "أمل" الشخصية التي كانت ماركسية ثمّ أصبحت أصولية والتي تقمصتها الممثلة لبنى مليكة: "قول لبابا ما تْخَافِشْ ما ضاع شَيْ ما زلتْ كيف ما أَنَا على المحبَّه اللّي ربيتْني عليها لكن بطريقه أخرى"، كأنما هي إشارة إلى أن الفراغ الذي تركه اليسار هو السبب في امتلاء الفضاء بالفكر الغيبي والطرح الأصولي. "خمسون"، ثلاث ساعات دون إحساس بالضجر ودون إحساس بهناءة البال والفكر أمام عمل يجادلك في عمق مصيرك الإنساني. نجاح الفاضل وأصدقائه في مسرحية "خمسون" نجاح مزدوج، أولا في "ربح معركة حرية الإبداع" والثاني وهو مهم في "كسب رهان الإبداع" في فضاء طغت عليه التفاهة والتسطيح...