يقع الخلط بين أمر وآخر فيذهب المعنى إلى غير أصله والمفهوم إلى غير قصده وهذا الخلط يتساوى فيه مالك السلطة والمجرد منها. فالمغلوب على أمره لا يثق بالحكومة ويلعن النظام ويخاف من أجهزة الأمن وحتى من النائب البرلماني ومن أصغر مسؤول. ومغتصب السلطة يثور جنونه من منظمة نقابية وجمعية مدنية وحزب معارض وحتى منظمة خيرية أو نادي تعارف أو نشرية مستقلة ولو كانت صفحة واب في الإنترنت. وقد يعني هذا توازن الخوف بين المالك والمملوك ولا أقول بين "الحاكم والمحكوم" أو بين الراعي والرعية لأن الأمر فيه غالب ومغلوب، قاهر ومقهور وهو ما يناقض مفهوم "الحاكم" الذي يفترض أنه ابن الشعب ويستمد شرعيته وقوته من هذا الشعب. إذن، لا مكان للخوف أو الظلم بين المحكومين وممثليهم طالما أن وجود هذا يقتضيه ذاك حتى تستقيم أركان الدولة ونظامها. إن الخوف أو التنافر القائم بين الماسكين بالسلطة وبين الممسوكين بها يدل دون لبس أن هذه السلطة فاقدة لمعناها الحقيقي لأنها سلطة فاقدة للشرعية ما جعلها تعمل بلا قانون وبلا عدل فتحولت إلى تسلط واستبداد ولكونها مطلقة اليد والقرار فهي تبيح لنفسها جميع صنوف الفساد بلا رقيب ولا محاسب لأن صاحب الحق في ذلك وهو الشعب لم يمارس دوره في إقرار شرعية انتصابها ولا تشريع القوانين لردعها ولا يملك من أمره غير تأييدها خوفا ولعنها سرا كما شاء واستطاع. ولكون مغتصب السلطة يدرك عدم شرعيته خوّل لنفسه مصادرة كل الحقوق وكل ما ليس له فيه قرار ورغبة والنتيجة عجزت السلطة عن التطور وتحقيق التنمية المزعومة رغم أنها نجحت في بسط الاستبداد ونشر الفساد وترسيخ الخوف مما أفقد الدولة مكانتها وقوتها على النمو لكون الشعب أصيب بالشلل هو الآخر خوفا من السلطة وخوف من نفسه لأنه صار يدرك ما يراد منه ويعجز عن التعبير عن إرادته وممارسة خياراته وقدراته الكامنة. الواضح أن السلطة أصبحت أسيرة الخوف من تحرر الشعب فضيّقت على حرية التعبير والتفكير ومنعت منظمات المجتمع المدني التي قد توفر لقوى الشعب منابر ومنتديات تفصح عن تطلع وطموحات وإبداعات الشعب لتكون كما هو مفترض قوة إضافية للدولة ومؤسسات موازية تخفف العبء عن السلطة التي وبدافع عدم الثقة في الشعب صادرت كل شيء لتتحمل لوحدها مهمة البناء والتنمية فوقعت ضحية خوفها وفقدت الدعم بعد فقدان الشرعية وثقة الشعب فيها. فقدان الثقة المتبادل والخوف المتقابل شل التفاعل والتكامل بين السلطة والشعب وصار الحل الأمني هو وسيلة السلطة لدفع الناس إلى تأييدها وصار التأييد الشعبي مجرد تقية أو نفاق أو سلوك انتهازي لاتقاء شر السلطة أو التقرب والاستفادة منها. فالنائب وهو ممثل الشعب لمجرد وصوله إلى البرلمان يصبح أداة للسلطة لا رقيب عليها ولا مشرع للقوانين الحامية للحقوق وكرامة المواطن والحالة تنطبق على بقية المنظمات والمؤسسات والجمعيات التي لمجرد تأسيسها تقطع مع إرادة المنخرطين فيها لتلتحق بالسلطة وتتبنى دورها وسياساتها في التدجيل والتدجين. والغريب أن تنقلب المقاصد فمن القول "كيفما كنتم يولّى عليكم" إلى قلب الفرضية "كيف يكون حاكمكم تكونون". وبدون تعميم هذا المعنى تعكسه حالة بعض القيادات النقابية وبعض الأحزاب المعارضة للسلطة والتي لا يختلف السلوك والتصرف فيها عن نموذج السلطة القائمة فلا هي شعبية ولا هي ديمقراطية ولا هي تسمح بتعدد الآراء والتداول على القيادة إلا في الحدود الدنيا ما جعل دورها لا يبتعد كثيرا عن مسلك التدجيل والتدجين وتأبيد الفوقية الأمر الذي كرس القناعة لدى المواطن بأن كل القيادات على الصعيد المدني وفي صعيد المعارضة وفي نظام حكم في خانة واحدة مقابل الشعب الضحية في كل الأحوال لكونه لا يملك حق اختيار أو نقد ومحاسبة وتغيير قادته وحاكميه وهو ما يؤكد أن الديمقراطية التي يتغنى بها الساعون إلى سدة القيادة في أي مستوى وفي أي جهاز أو منظمة لا زالت بعيدة المنال. وهذا يعني استحالة تحقيق المواطنة بمعنى الشراكة في الوطن وفي تقرير مصيره سيما أن حق الشراكة في أبسط أمور التسيير مرفوضة ولذا تبقى الشراكة في الشأن الوطني العام حكرا على الفئة المتنفذة والمتمسكة بأحادية الرأي والقرار مما حوّل كل ركن من الوطن العربي وكل دائرة من دوائر المجتمع إن لم نقل كل خلية سجنا تحت رحمة سجان جلاد سخّر نفسه أو سخّروه لحفظ الصمت والاستقرار حتى صار المواطن سجين خوفه ونزيل ذاته السجينة. وصاحب السلطة لا يقل خوفا من تحرر السجناء فقبع أسير أجهزته الأمنية ساهرا على حراسة منظوريه مؤتمنا على إرادتهم ومستقبلهم. وهكذا أضحى الهاجس الأمني محور الاهتمام بالنسبة للمتسلط مقابل الغضب الشعبي المكبوت وكل ذلك على حساب قضايا أخرى كفيلة بإحداث مصالحة حقيقية بين من يتصور أنه جدير بالحكم وبقية الشعب الذي يعتقد أنه محروم من سلطته ومجرد من إرادته. وهذه القضايا ليست أكثر من حرية مسؤولة وديمقراطية صادقة وحكم وطني عادل يحفظ كرامة المواطن ويرعى حقوقه بما يحفز الجميع على تحقيق التنمية التشاركية وتعزيز وحدة الشعب وسيادة الوطن في إطار من التكامل المتلاحم بين الحاكم العادل والمحكوم الحر أي بين حاكم محكوم بإرادة الشعب ومحكوم محمي بسيادة القانون.