أنطلق في تحليلي هذا من موضوعة هامة طرحتها يوما ما على الكاتبين الفلسطينيين ياسر الزعاترة ومنير شفيق حين كانا في جولة اسناد ومؤازرة للأستاذ الغنوشي رئيس حركة النهضة بعد أن خرجت الحركة مهزوزة الكيان الداخلي جراء مالقيه مناضلوها من أذى شديد داخل السجون والمنافي في ظل دخولها في مواجهة غير متكافئة مع السلطات التونسية بداية التسعينات من القرن الماضي ,حيث طرحت يومها في منتدى فكري وسياسي مفتوح على هذين الكاتبين اشكالية فشل أصحاب المشروع العربي والاسلامي في قطف ثمار نضالاتهم بعيد انتهاء مرحلة الاستعمار العسكري المباشر ونجاح أصحاب المشروع اللائكي في قيادة العديد من بلدان المنطقة برغم ضمور تضحياتهم مقارنة بما قدمه التيار الأول من اكراهات وعذابات ومشاق من أجل تحرير أوطاننا من براثن حقبة الاستعمار . كنت متوقعا يومها برغم أن تاريخ الجدل الدائر بيننا يعود الى مالايقل عن عشر سنوات الى الوراء ...كنت متوقعا بأن مالات الحكم والتسيير بعد نضال وطني شاق في صفوف المعارضة ستؤول في نهاية المطاف كما الت من قبل الى تصعيد اليساريين واللائكيين الى الواجهة الدولية وواجهة مزيد من الاعتراف الديبلوماسي العالمي ,في حين أن وضعية الاسلاميين الوسطيين ستؤول اما الى تهميش أو اضطهاد جديد أو الى تخف وراء واجهات علمانية تضطرهم حتما الى عدم مخاطبة العالم المتحضر والمجتمعات العربية والاسلامية بخطاب اسلامي وسطي واضح وكامل ومعتدل بل بأنصاف الخطاب وأثلاثه أو ربما أرباعه أو أقل من ذلك بكثير ...! اليوم أعود الى هذا الموضوع الذي لم أتلق جوابا شافيا على اشكالاته من الكاتبين المذكورين ولا من ممارسات تيار النهضة التونسية ,حيث أنه بمتابعتي لمحور العلاقة بين الحركة الاسلامية التونسية وأقطاب التيار العلماني التونسي لاحظت انسياق تيار النهضة الى أجندات الطرف الاخر في المعسكر اللائكي دون قدرة على رسم التمايزات بين المشاريع ,ولاقدرة على التفطن الواضح لماتريده بعض الأطراف اليسارية المغالية في اللائكية من توريط للحركة الاسلامية الوسطية في لعبة التنازلات العقدية والفكرية التي تفرغ التيار من كوادره الفاعلة ومن عمقه الاجتماعي الذي هو سر فاعليته في الساحة الوطنية ... أعود للتذكير مرة أخرى ورفعا لكل التباس بأنه لايؤرقنى وجود تيار علماني أو لائكي مخالف في الرأي والتوجه سواء كان ذلك في تونس أو دول الجوار ,حيث أن وجود مثل هذا التيار يعد أمرا طبيعيا وضروريا في زمن القرية الكونية التي تتداخل فيها الأفكار والايديولوجيات والتوجهات السياسية الكبرى على مستوى العالم ,غير أن مايؤرقني فعلا هو تهافت الاسلاميين التونسيين على التخفي وراء لافتات سياسية قد يحتمها الظرف لكنها ليست قدرا عليهم اذا ماأرادت الأطراف السياسية والايديولوجية الأخرى توظيفها ضمن أطر عقدية أو فكرية أو مصلحية لاتتوافق مع ثوابتهم الوطنية أو الاسلامية أو السياسية ... سوف أكون جريئا بعض الشيء اذا ماقلت بأن بعض اللائكيين التونسيين ,وأؤكد في هذا الموضع على صيغة التبعيض وليس على صفة التعميم : بعضهم يظن أن الاسلاميين على درجة من الغفلة أو الضعف التي تدفعهم الى التوقيع على شيكات بدون رصيد أو الانخراط في عقد أي أحبولة أو أنشوطة سياسية يقصد من ورائها اضعاف أدوارهم في الحياة العامة ,أو ابعادهم عن أرضيتهم الفكرية والثقافية التي ينطلقون منها في معالجة اشكالات الشأن العام ,وهو مايعد في تقديري اما اساءة للقراءة والفهم أو تغافلا عن حقيقة الجسم الذي قبل بخديعته في أكثر من مناسبة ولكن لايعني أن الكثير من عناصره الفاعلة باتت تمتلك القدرة الفائقة على التحليل والفهم والرصد وهو ماسيجعلها قادرة في المستقبل القريب على حفظ التوازنات الفكرية الكبرى بما يعزز من مكانة الهوية العربية الاسلامية الحداثية في أي معادلة سياسية مرتقبة بالبلاد التونسية. ينبغي التنبيه الى أن الاعتراف بالطرف الاخر كشريك في الحياة العامة لايعني البتة التنازل الذي يقصد من ورائه القبول بأي خارطة سياسية أو فكرية يفصلها المتامرون على عقيدة البلاد وانتمائها الحضاري العربي والاسلامي ,اذ أن القبول الاسترتيجي بالحداثة والعصرنة الذي لازم قناعات التيار الاسلامي الوسطي منذ انخراطه الفاعل في الحياة الوطنية مع بداية الثمانينات من القرن الماضي ,لم يكن دروشة تعني التسليم بنضالات التيار لمن هب ودب ممن يقدم نفسه اليوم على أنه لا بالعلماني ولا بالاسلامي ومن ثمة محاولة توظيف نضالات الاخرين وتضحياتهم لفائدة مطامح شخصية تريد أن تجعل نفسها مقدمة على المصالح العليا للمجتمع والبلاد ... يتصور البعض بأن الاسلاميين الوسطيين التونسيين هم مجرد محرك أو وقود لصناعة التغييرات ,لكن الثمرة ينبغى أن تقع في أيادي تتوهم القدرة الحصرية على التواصل الدولي والعالمي ...!,وكأن الكيان الاسلامي الحداثي والمعتدل بات عاجزا عن التأسيس لاعتراف دولي أو هو بمثابة الكيان القاصر والمحجور عليه بحيث تعوزه القدرة على التواصل بأطروحاته المعتدلة مع المجموعة الدولية من أجل ترتيب علاقات طبيعية وشفافة مع العالم الخارجي ... وبالعودة الى الوراء ,وبالارتكاز على محور أهمية العمق الداخلي في أي عملية سياسية وطنية فان علاقة الاسلاميين بالسلطات الحاكمة في بلدهم تونس ,ليس من المقدور عليها بأن تبقى صدامية الى أبد الابدين ,حيث أن تاريخ اليسار التونسي تراوح منذ بروزه قطريا وعربيا بقوة في مرحلة السبعينات ,بين الاحتكاك المباشر بنظام الحكم ,ومن ثمة تجربة النفي والسجن ,لينتقل بعدها الى طور تطبيع علاقته بالسلطة تمهيدا للفعل من داخلها والانخراط ضمن هياكلها وصولا الى تواجده الفاعل في الكثير من الوزارات السيادية-حقبة التسعينات-... اذا ليس بالقدر المحتوم أن يستمر الاسلاميون الوسطيون في مواجهات "دنكوشوطية" مع سلطات بلدهم أو الحزب الحاكم ,بل انه من عين العقل والحنكة فك هذا الاشتباك والتأسيس لعلاقات طبيعية مع الجهات الرسمية وذلك قصد تأمين حياة سياسية واجتماعية أكثر هدوء وانسيابية ومن أجل عدم اضطرار السلطة الى الوقوع في أفخاخ علاقات دولية غير متوازنة ومجحفة اضطرتها لها اختلالات الجبهة الداخلية في ظل مواجهة مفتوحة مع التيار الاسلامي الوطني . يؤسفني القول بأن بعض الأطراف الداخلية التي تشكل أقلية حزبية ونخبوية غير مسنودة من عمق جماهيري تحاول النفخ في صراع الاسلاميين مع السلطة من أجل ضمان دور مستقبلي مشبوه في الحياة العامة ,حيث يرى هؤلاء في تأجيج الصراع بين الاسلاميين الوسطيين والحزب الحاكم والمؤسسات الرسمية للدولة جسرا يمرون عليه لاحداث تغيير داخلي يقدمهم للعالم بمثابة الأبطال في احداث وقيادة التغيير ,على اعتبار أنهم لعبوا دورا متقدما وبارزا في اضعاف واسقاط الديكتاتورية(التي صنعها بعضهم) , الا أن أحاديث هؤلاء في مجالسهم الخاصة وبين جمهورهم الحزبي فيما يضمرونه من مشاريع مستقبلية تجاه التيار الاسلامي الوسطي وتجاه ثوابت المجتمع الدينية واللغوية والحضارية هو في حقيقته أكثر خطورة مما يصرح به الحزب الحاكم بسياسييه الرسميين الذين لم يتجاسروا في الكثير من الأحيان على المساس بخطوط فكرية وسياسية وعقدية حمر وضعت للمنتظم السياسي التونسي منذ عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. حذاري ثم حذاري ثم حذاري ,من الوقوع في الفخ لنعود مجددا لأخطاء ارتكبت في مراحل استلام مقاليد دولة الاستقلال ,حيث صار الحكم لأقلية لائكية غلب على مكوناتها الغلو والتطرف في نظرتها لقيم ومقدسات الأمة ووضع المسلمون المعتدلون والوسطيون الذين كانوا عماد معارك التحرير في غياهب المنافي والسجون ! حرر بتاريخ 9 أفريل 2007-21 ربيع الأول 1428 ه نشر بتاريخ 10 أفريل 2007 على صحيفتي الحقائق الدولية والوطن الأمريكية+ليبيا المستقبل و المنارة للاعلام بنفس التاريخ. *كاتب واعلامي تونسي - رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية :