السلامة الصحية تحذّر    فرع تونس للمحامين..لمن ستؤول الرئاسة؟    قابس...انطلاق الاستعدادات للموسم السياحي الصحراوي والواحي    البرتغال تعلن رسميا الاعتراف بدولة فلسطين    بعزيمة أكبر وإرادة أقوى..أسطول الصمود يواصل الإبحار نحو غزة    «الستيدة» والمكنين يضربان بقوة    محاولة تهريب أكثر من نصف طن من المخدرات بميناء رادس: معطيات جديدة    كانا يحاولان إنقاذ كلبتهما .. غرق شقيقين .. في قنال مجردة    ميناء رادس: أمس تمّ كشف أكبر صفقة لتهريب المخدّرات : حجز 400 كلغ من «الزطلة» وتورّط رجل أعمال    حافلةُ الصينِ العظيمةُ    لأول مرة في تاريخها ...التلفزة التونسية تسعى إلى إنتاج 3 مسلسلات رمضانية    الصينيون يبتكرون غراء عظميا لمعالجة الكسور    سفيرة فرنسا بتونس: أكثر من 100 ألف تأشيرة للتونسيين في 2024    بطولة افريقيا لكرة اليد للصغريات (الدور النهائي): المنتخب التونسي ينهزم امام نظيره المصري 21-33    الملعب التونسي سنيم الموريتاني (2 0) انتصار هام ل«البقلاوة»    مستقبل قابس النادي الصفاقسي (0 0) .. نقطة ثمينة ل«الجليزة»    الولايات المتحدة: مصرع شخصين وإصابة 5 آخرين بإطلاق نار قرب ملهى ليلي    عاجل: التونسي معز الشرقي يفوز ببطولة Saint Tropez الفرنسية للتحدي    هذا ما تقرر في حق الارهابيان يحي الغزالي وعادل الغندري    مطار بروكسل يطلب من شركات الطيران إلغاء نصف الرحلات المغادرة غدا: الأسباب    في اليوم عالمي للزهايمر: هذه توصيات وزارة الصحة    من بينها 5 عربية.. ترامب يدعو قادة 5 دول إلى اجتماع بشأن الحرب على القطاع    الدورة السادسة من تظاهرة "الخروج إلى المسرح" من 26 سبتمبر إلى 2 أكتوبر 2025    عاجل: ثلاثية نظيفة للترجي على القوات المسلحة وتقدم كبير نحو الدور الثاني!    عاجل: حارس الإفريقي ينقل للمستشفى بعد تدخل عنيف    الشمال والوسط تحت الرعد: أمطار قوية تجي الليلة!    الحوت الميت خطر على صحتك – الهيئة الوطنية تحذر    الكيني ساوي يفوز بماراطون برلين ويحافظ على سجله المثالي    تونس تحتفل بيوم الشريط الساحلي يوم 25 سبتمبر 2025    وزير الخارجية يترأس الوفد التونسي في أشغال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة    المراقبة الاقتصادية تحجز 55 طنا من الخضر والغلال ببرج شاكير والحرايرية    قلة النوم تهدد قلبك.. تعرف شنو يصير لضغط الدم!    أمطار الخريف ''غسالة النوادر''.. شنية أهميتها للزرع الكبير؟    بحسب التوقعات: تونس الكبرى وزغوان تحت الخطر...أمطار بين 60 و90 ملم!    عاجل- تذكير: آخر أجل لإيداع التصريح بالقسط الاحتياطي الثاني للأشخاص الطبيعيين يوم 25 سبتمبر 2025    تونس تشارك في مؤتمر التعاون الثقافي والسياحي الصيني العربي    الجمعية التونسية للطب الباطني تنظم لقاء افتراضيا حول متلازمة "شوغرن"    تونس ممكن على موعد مع 45 ألف حالة زهايمر قبل 2030!    المؤتمر الدولي للمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر،"الاستقلال، نضالات ، مفاوضات والبحث عن السيادة" ايام 26و27،و28 مارس 2026    سوسة: جلسة عمل لمتابعة وضعية شركة الألبان الصناعية بسيدي بوعلي    محمد علي: ''الأسطول يقترب كل دقيقة من غزة.. أما أنتم؟ مجرد أصابع ملوثة على لوحة مفاتيح''    بوعرقوب: انتهاء موسم جني الكروم بنسبة 100%    بين البراءة ونقص الأدلة... شنوة الفرق؟    فيتنام بالمركز الأول في مسابقة إنترفيجن وقرغيزستان وقطر في المركزين الثاني والثالث    الموساد تسلّل إلى معقلهه: الكشف عن تفاصيل اغتيال نصر الله    إدارة ترامب تلغي المسح الوطني السنوي للجوع    عاجل: إيقاف اكثر من 20 ''هبّاط'' في تونس    عاجل: شيرين عبد الوهاب أمام القضاء    بنزرت: تنفيذ اكثر من 80 عملية رقابية بجميع مداخل ومفترقات مدينة بنزرت وتوجيه وإعادة ضخ 22,6 طنا من الخضر والغلال    غدا الأحد: هذه المناطق من العالم على موعد مع كسوف جزئي للشمس    عاجل/ بشائر الأمطار بداية من هذا الموعد..    تكريم درة زروق في مهرجان بورسعيد السينمائي    عاجل/ مصابون في اصطدام "لواج" بشاحنة ثقيلة بهذه الطريق الوطنية    السبت: أمطار متفرقة بالجنوب الشرقي وسحب عابرة    استراحة «الويكاند»    ما تفوتهاش: فضائل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة!    وخالق الناس بخلق حسن    يا توانسة: آخر أيام الصيف قُربت.. تعرف على الموعد بالضبط!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل نحتاج إلى إعادة صياغة مشروع (المصالحة)؟
نشر في الوسط التونسية يوم 08 - 02 - 2008

يزداد استيائي كلما قرأت مقالا جديدا في موضوع (المصالحة الوطنية).
وإن كنت من المقلين في الحديث في هذا الموضوع –شأني في ذلك شأن السواد الأعظم-، فليس ذلك عزوفا عن الاهتمام بالشأن التونسي، وإنما لعلمي بمدى استنزاف مثل هذا العمل للطاقة والجهد والأعصاب.
وأود أن أحيي بعض الكتاب على الشجاعة والصبر والأدب الجم الذي يصبغ كلامهم، وأسأل الله أن يزيدهم من فضله. وفي نفس الوقت، آسف كثيرا لما تردّى إليه خطاب بعض من يعقّبون. وكم وددت لو أنهم ألجموا أقلامهم عوض أن يطلقوا لها العنان حتى لا يعرضوا أنفسهم للزلل المهين.
وقديما، قال عمر بن الخطاب: "من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه" (1).
وقال الفضيل بن عياض: "إذا أردت أن تصادق صديقا فأغضبه، فإن رأيته كما ينبغي فصادقه" (2). أما اليوم فإن إغضاب الصديق فيه مخاطرة كبيرة، كما يقول ابن مفلح الحنبلي، لأنك ( إذا أغضبت أحدا صار عدوا في الحال) (3).
والكتابة، باعتبارها توصيفا للواقع، واقتراحا للحلول، وتنظيما للوعي، وشرحا للقيم، تحمل في أعماقها دائماً معنى الرسالة. والرسالة تستدعي مسؤولية الأمانة.
والكاتب معرّض دائماً للانحراف وفقدان المصداقية والتأثير على الآخرين (من حيث أراد الصواب واستمالة الآخرين إلى رأيه)، إذا اختل لديه أحد أمرين:
- أولهما: الجانب الخلقي المقاصدي: ونقصد به عنصر الصدق والإِخلاص في النقل والتعبير.
- وثانيهما: الجانب الفني التقني: عنصر النضج في صياغة الأفكار المفيدة، والتعبير عنها باللغة.
وغالبا ما يفقد الكاتب ثقة قرائه، نتيجة عدم استحضاره لهذين الشرطين معاً في كل ما يكتب.
والكاتب يصبح أكثر عرضة للانحراف إذا أسهب في عرض فكرته، أو إذا اضطر إلى إعادة شرحها، وإطالة الحوار والنقاش حولها. وكم من فكرة نافعة أعجبت القراء حين صيغت باختصار في أسلوب بليغ، وفقدت بريقها حين تكررت على مسامعهم عشرات المرات.
وما يدفعني إلى كتابة هذه الكلمات أمور أربعة:
- الأول: تبرّمي من خطاب بعض الكتاب الذين لا يفوّتون أي فرصة للاستهزاء من مواقف الحامدي، والانتقاص من شخصه، عوض الاكتفاء بانتقاد الأفكار التي يطرحها. والمؤسف أن كثيرا منهم يتبنون طرحا مستندا إلى رؤية إسلامية، في حين يغفلون أصولا أخلاقية إسلامية لا يجوز التغافل عنها عند نقد الآخرين. وهم من عنيتهم، في كلام سابق لي (4)، بإلقاء الأشواك على الآخرين، عوض الاكتفاء بنقد أفكارهم فقط. وهذا الأمر لا ينطبق على كل من عقّب على كلام الحامدي، وإنما على البعض فقط.
- والثاني: الانتصار مبدئيا لحق الحامدي في إبداء مواقفه عموما، بدون أن يعني ذلك اتفاقي معه على كل مواقفه _وأحسب أنني ممن يستوعبون خطأ اعتقاد الاتفاق في كل الأمور مع أي كان، لأن الاختلاف سنة ربانية_. غير أنني أوافقه الرأي (ولا يهمني توافق النوايا، ولسنا مكلفين بل نحن منهيّون عن البحث في هذا الأمر) في ضرورة التوازن والعدل عند الحديث عن الوطن ومشاغله وهمومه، وعدم الاقتصار فقط على الجوانب القاتمة من واقع الوطن.
- الثالث: كثرة الأخطاء المنهجية في التعبير عن المواقف وقراءة مواقف الآخرين، وسيطرة الانفعال والضيق بالرأي الم خالف. وما كثرة الردود على الحامدي إلا دليل على حالة القلق النفسي والحساسية المفرطة تجاه الموضوع.
- الرابع: كثرة المغالطات المنطقية ومزالق القياس الخاطئ في الجدال الدائر حول الموضوع، واتكاء بعض الكتاب على فصاحته وتلاعبه بمفردات اللغة، لمحاولة إقناع الآخرين.. وإنما القراء بشر مثلهم، وإن الكتّاب يختصمون إلى قرّائهم، ولعل بعضهم أن يكون ألحن من بعض، فيقضي القراء بينهم بنحو ما يسمعون؛ فمن قضي له بشيء من حق أخيه فإنما يقتطع قطعة من النار..
يلاحظ القارئ لكثير من التعقيبات الواردة على مشروع الحامدي، وجود توجه عام عند مخالفيه، لاعتبار المشكلة أحادية التركيب عديمة المنافذ مستحيلة التجزئة، وهذا يؤدي إلى الشعور باليأس من التعامل معها، وتكون النتيجة طرحها وتجاهلها.
والحقيقة أن المشكلات الكبرى يستحيل حلها دون تجزئتها إلى وحدات صغيرة ثم تصنيفها إلى أساسي وهامشي، ومحاولة النفاذ إلى التناقضات الداخلية التي تشتمل عليها واستثمارها، وتغيير علاقات السيطرة وتبديل مواقع العناصر في تلك الظاهرة بغية الوصول إلى علاقات ووحدات ووظائف جديدة، حتى نتمكن في النهاية من السيطرة على المشكلة وحلها.
أما التعامل مع مشكلاتنا على أنها كتلة صلدة، ورفض الاستماع لرأي الداعين لتجزئتها، فإنه سيؤدي حتما إلى أن يأخذ كثيرون منا إجازة مفتوحة، مع أننا، كتونسيين، بحاجة ماسَّة إلى كل ومضة فكر نافع، وكل حركة يد مخلصة.
مما يحز في النفس، أن نقرأ في مواقف الناقدين لمشروع الحامدي، تركيزا شديدا على شخصه، ومحاكمة للنوايا، وتشكيكا في مصداقيته، واستدعاء لماضيه، بلغة لا تخلو (في كثير من الأحيان) من الاستفزاز والاستهزاء والتعريض. بل وصل الأمر إلى ظهور بعض الرسوم الكاريكاتورية في بعض المنتديات. وكم وددت لو أن بعض مخالفي الحامدي، رفعوا أصواتهم للتبرأ من هذا المنهج غير الأخلاقي، ونصرته في المواقع التي يجب نصرته فيها، إذن لكبر قدرهم في أعين قرائهم.
من المفروض على أهل الديانة أن يوطّنوا أنفسهم على إحسان الظن بالآخرين عندما يسع إحسان الظن بهم، واعتبار الخلاف معهم غير متجاوز لوجهات النظر.. ولا يهم في ذلك إن كان الاتفاق معهم تاما أم لا.. ومما يحسن أن يتحوطوا منه كثيرا هو التموقع في موقع التصادم مع أي كان. أما الريبة و تأويل النوايا فليست من أخلاق الإسلام وشعب الإيمان في شيء.
يغيب عن ذهن الكثير منا أن الخير المحض والشر المحض نادران، وأن الحق القطعي والباطل القطعي يكونان غالباً في الأصول الكبرى، التي مهما تكن كثيرة فإنها في النهاية محدودة. أما المسائل والمواقف والأحداث التي يحكمها الاجتهاد والتجربة والخطأ فهي لا متناهية. ومن الضروري، في هذه الأمور، التفريق بين الخطأ الصادر عن مجتهد مخلص مؤهل، وبين الخطأ الناتج عن الجهل المفرط أو الرعونة النفسية. فالأول مأجور على ما بذله في محاولة الوصول إِلى الحق.
وحتى لا نقع في الحيف في تقويم الأشخاص والمواقف، فإن علينا أن نمتلك النظرة التفصيلية بعيداً عن التعميم وإطلاق الأحكام الكبرى وإغفال الظروف المحيطة، وألا نقطع الأحداث عن سياقها التاريخي.
ومن بين الأمور التي بدت لي من خلال هذا الحوار وجود عدد من المصابين بعمى الألوان؛ فهم لا يبصرون إِلا الأبيض والأسود، مع أن بينهما ألواناً كثيرة يختلط فيها البياض والسواد على درجات كثيرة.
ويعلِّمنا الإِسلام مرة أخرى أسلوباً عظيماً في الإنصاف يتمثل في أن نعامل الناس وفق مقاييس ومعايير نحب أن يعاملونا بها، وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (5)، ويقول: «... فَمَنْ أَحَبَّ أْنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ بِمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِِلَيْهِ" (6).
وهذا الإنصاف متوجب على جميع الأطراف، وتجاه جميع الأطراف.
أما التعامل مع الآخرين بانفعال، والحكم المسبق على جميع ما يصدر عنه (نتيجة رواسب من الماضي)، فإنه لا يؤدي إلى العدل والاعتدال، بل يشوِّش رؤيتنا للخيارات المتعلقة به، والظروف المحيطة به، والمآلات التي قد يفضي إِليها؛ وبالتالي القرار الذي علينا أن نتخذه حياله؛ إِذ من النادر أن نتمكن من إِصدار أحكام عقلية منطقية وموزونة في حالة طغيان الانفعال الإِيجابي أو السلبي، لأن الانحياز آنذاك هو سيد الموقف:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
وشخصيا، فإن معرفتي بالحامدي لا تتجاوز قراءتي من حين لآخر بعض مقالاته، أو مشاهداتي النادرة لقناة (المستقلة). غير أنني تابعت باهتمام سلسلة الحوارات المسجلة التي قام بها حول القضايا الخلافية بين السنة والشيعة، لأنني أعتبر نفسي من المهتمين بقضايا الخلاف وأدب الحوار بين المسلمين.
وأما تاريخه وأنشطته السابقة كقيادي طلابي، ثم تغيير مساره، ثم مبررات المؤاخذات الموجهة إليه حول أسلوب تعامله مع السلطة القائمة... فكل هذا لا علم لي بتفاصيله، ولا يهمني –بصدق- معرفته.
وأما عن الخطاب الحالي للحامدي، فهو كغيره يؤخذ منه ويردّ. وقد قرأت له بعض المقالات في مواضيع لا تستهويني ولا تندرج في إطار اهتماماتي (مع احترامي له، وتقديري للمجهود الذي يبذله). غير أنني في المقالات المتعلقة بموضوع (المصالحة)، لم أجد أي مبرر لهذه الهجمة التي تعرض إليها سوى سوء الخلق وإساءة الظن به.
حال خطاب المعارضة الذي يركّز (في الأحاديث الداخلية والأحاديث الخارجية) على نقد الأوضاع القائمة و"الاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان، وإطلاق المساجين السياسيين، إلخ"، لا يختلف في تصوري عن حال الجارة التي تكرّس كل حديثها مع صاحباتها على (التقطيع والترييش) في فلانة، وكلما جلست إلى جاراتها حدثتهن عن مساوئها، ولم تحسن سوى ذلك، فلا تجد في النهاية أذنا صاغية إلا ممّن هنّ على شاكلتها. وعقلية (ما رأيت منه خيرا قط) ذمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها عقلية من (يكفر العشير).
وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا: "أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما.. وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما".
ولعل التفكير الجاد في مساوئ هذا الخطاب يساعد على فهم أسباب عجز المعارضة لحد الآن عن استمالة الأنصار إليهم.
ومن الأمثلة على الخلل في هذا الخطاب، ما عبر عنه أحد الأصدقاء عندما وجّه لي عتابا شديدا، بعد نشر رسالتي الموجهة للدكتور الحامدي بعنوان (تحية إلى الحامدي المتفائل) في بعض المواقع التونسية. ومما جاء في نقده لي العبارة التالية: " الوطن حلم الجميع وأمل الجميع، أما حاكموه فقد فقدوا ثقة شعبهم، ونزعوا عن أنفسهم كل أمل في إصلاحهم".
ولا يخلو مثل هذا الموقف من التعميم والظلم، لأن "الحاكمين" الذين يعبّر عنهم بصيغة الجمع لا يجوز معاملتهم على أنهم جهة واحدة متجانسة وموحّدة في مواقفها.
كما لا تخلو مثل هذه الأحكام التعميمية من خطورة، لأنها توحي بأن العداوة مستحكمة، مثل العداوة بين الشيطان والإنسان. وتصبح هذه الخطورة أكبر عندما تصدر عن أشخاص يتبنون شعارات دينية، لسهولة الان زلاق على أساسها نحو (التكفير) و(العنف).
ولعل من الغريب أن تصدر مثل هذه الأحكام ممن يتبنون خطابا إسلاميا، للمخالفة الصريحة لنصوص شرعية متضافرة في الموضوع، كأمر الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام باللين مع فرعون: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى، قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ) (7)، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهدا في العبادة. فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر. فوجده يوما على ذنب، فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي. أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة. فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: كنت بي عالما أو كنت على ما في يدي قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أَوْبَقت دنياه وآخرته " (8).
بل إن الأغرب أن يتهم البعض بعدم النضج السياسي لأن (السياسة لا تقاس بالعواطف والأماني وإنما بموازين القوى). وهي عبارة، وإن كانت صادقة نسبيا، لا تخلو من مغالطة منطقية، لأن العاطفة والوجدان، إضافة إلى العامل الأخلاقي وأمور أخرى، كلها ضرورية في العرف السياسي، ممارسةً وتقييمًا، وهي أوكد عند أهل الديانة ( ولكن وطّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم). والناس عادة لا يحبون من يخاطبهم بحديث موازين القوة، وإنما يحبون من يخاطبهم بحديث المحبة والرحمة والإشفاق، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه. فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحّمون فيه" (9).
فضلا عن ذلك، فإن الاقتصار على النقد، صباح مساء، يظهر المعارضين بمظهر من لا يحسنون غير هذه المواضيع. والناس يسأمون من التكرار، ويضجرون من الإلحاح. فإن كانوا فعلا لا يحسنون غير ذلك، فلم لا يسكتون لفترة (كما اقترح الدكتور الحامدي)، عسى أن يتجدد نشاط السامعين لقولهم بعد حين؟
5- اقتراح إعادة صياغة المشروع
وحتى لا يضيع وقت الكتّاب والقرّاء هدرا، أقترح على جميع المعنيين بموضوع المصالحة إعادة صياغة الموضوع بشكل إيجابي، والبحث عن كلمة سواء بين الجميع، حتى لا يضيع هذا الحوار المستمر منذ بضع سنوات، والمتجدد منذ بضعة شهور.
وأقترح في ما يلي بعض الأسئلة والأفكار التي قد تساعد على التفكير الموضوعي في الأمر:
1- ما المشكلة في طرح الدكتور الحامدي لمشروع "المصالحة"؟
2- هل تكمن المشكلة في مصطلح "المصالحة"؟ إن كان الأمر كذلك، فلم لا نبحث عن مصطلح آخر مقبول من الآخرين؟
2- أم أن المشكلة في شخص الدكتور الحامدي؟ إن كان الأمر كذلك، فلم لا نتجاوز هذا الأمر والاهتمام فقط بفكرة المشروع إن كانت مفيدة (خصوصا وأنه أعلن مرات عديدة، أنه لا يطرح نفسه كوسيط، وإنما تكلم لعدم وجود المتطوعين)؟
3- أم أن المشكلة في ربط المشروع بقبول طرف مّا لا يبدو أنه مستعد لتغيير مواقفه؟ إن كان الأمر كذلك، فلم لا نغض الطرف عن هذا التعنت، والبحث عن نقاط اتفاق أخرى يمكن تحقيقها معه؟
4- لقد جعل للجنة أبوابا متعددة يوم القيامة، أفلا يسعنا أن نترك للدكتور الحامدي مجالا للعمل رغم مخالفته في المنهج، من باب تعديد الأبواب "لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة"؟ وهل نجح "الثبات على الموقف" والإصرار على منهج الباب الوحيد في تغيير أي شيء طيلة السنوات العشرين الأخيرة؟
5- إن كانت المصالحة التامة غير ممكنة، فما هي البدائل المطروحة التي من شأنها تحسين الواقع، وعدم ترك الأمور على حالها؟
6- هل "الثبات على الأولويات" و"الإصرار على المواقف" يساعد على إيجاد حل للانسداد الحاصل؟
7- إن كان البعض يصر على مواقفه (سواء سموه "ثباتا على المبادئ" أو "رفضا للدنيّة في الدين" أو سماه مخالفوهم "عنادا" و"تعنتا")، فلم الإصرار على مخاطبتهم في هذا الموضوع بالذات؟ ألم يقل الله تعالى: " إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء".
8- هل لكل طرف من الأطراف أن ينسى، ولو حين، نقاط الخلاف مع الطرف الآخر، ويتساءل فقط عن الأمور التي يتفق فيها معه؟
9- هل من فائدة في توسيع دائرة الحديث عند المعارضين كي تشمل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية،إلخ، عوض الاكتفاء بالأحاديث المتعارف عليها، إلخ؟
10- ...
ولا شك أن كثيرا من الأسئلة يمكن إضافتها بهدف فك التعقيد في المشكل.
6- همسة أخرى في أذن الدكتور الحامدي
ليس من طبعي الإكثار من الشكر. غير أنك تفرض عليّ مرة أخرى أن أحيّيك علنا، لصبرك وسعة صدرك، وتحملك للأذى. وأعلم أن كثيرا غيرك لو تعرضوا لما تعرضت إليه في الأشهر الماضية، لأصابهم الإحباط والانهيار، ولاختاروا الانطواء على أنفسهم، وخامرهم الشك في خياراتهم، بل ولخامرتهم (في لحظة الشعور بالعجز عن إقناع الآخرين) فكرة الانقلاب على مبادئهم وعلى أصدقاء الأمس.
ولكن أرجو أن يكون عزاءك ثقتك في الله، وأنه يمنح الأجر العظيم للمخطئ والمصيب. أما الناس، فلا تنتظر منهم كلمة الشكر، حتى لو كنت مصيبا، لأنهم سينازعونك فيه، ولن يرضوا لك أي مغنم ولو كان مستحقا.
واسمع لقول الفضيل بن عياض: "رأيت نفسي تأنس بخلطاء تسميهم أصدقاء، فبحثت التجارب فإذا أكثرهم حساد على النعم، وأعداء لا يسترون زلة، ولا يعرفون لجليس حقا، ولا يواسون من مالهم صديقا.. فتأملت الأمر فإذا أكثرهم حساد على النعم، فإذا الحق سبحانه يغار على قلب المؤمن أن يجعل به شيئا يأنس به، فهو يكدر الدنيا وأهلها ليكون أنسه به.. فينبغي أن تعد الخلق كلهم معارف، ولا تظهر سرك لمخلوق منهم، ولا تعدن فيهم من لا يصلح لشدة، بل عاملهم بالظاهر، ولا تخالطهم إلا حالة الضرورة وبالتوقي لحظة، ثم انفر عنهم، وأقبل على شأنك متوكلا على خالقك، فإنه لا يجلب الخير سواه، ولا يصرف السوء إلا إياه.. " (10)
واسمع أيضا لقول ابن القيم: "كان لي أصدقاء وإخوان، فرأيت منهم الجفاء.. فأخذت أعتب فقلت: وما ينفع العتاب؟ فإنهم إن صلحوا، فللعتاب لا للصفاء.. فهممت بمقاطعتهم فقلت: لا تصلح مقاطعتهم.. ينبغي أن تنقلهم إلى ديوان الصداقة الظاهرة.. فإن لم يصلحوا لها، فإلى جملة المعارف.. ومن الغلط أن تعاتبهم " (11).
فلا تحزن، ولا تيأس..
وسدّد، وقارب..
الهوامش:
1- نقلا عن (صيد الخاطر) لابن القيم
2- نقلا عن (الآداب الشرعية) لابن مفلح الحنبلي
3- المصدر السابق
4- نشرت لي رسالة قصيرة بعنوان (تحية إلى الحامدي المتفائل)، منذ بضعة أسابيع في بعض المواقع التونسية.
5- رواه البخاري ومسلم
6- رواه مسلم
7- سورة طه: الآية 42-47
8- رواه أبو داود، وأحمد، وابن حبان عن أبي هريرة، وصححه الألباني في تحقيقه لسنن أبي داود
9- رواه مسلم في صحيحه عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة
10- نقلا عن (الآداب الشرعية) لابن مفلح الحنبلي
11- المصدر السابق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.