منذ أن تسلم طوني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق رئاسة حزب العمال عام 1994، الذي وهنت عزيمته إثر تعرضه لسلسلة من الهزائم المتلاحقة (1979، 1983، 1987، 1992)، التزم بوضع حد لسلسلة الهزائم المشؤومة الآنفة الذكر، وبإعادة تشكيل حزب العمال ليصبح “حزباً جديداً براقاً” لا يتمتع بالروابط القوية القديمة التي كان يتميز بها عن الاتحادات، وفاقداً الكثير من سياساته الاشتراكية التقليدية. وكان بلير والمجموعة الصغيرة المحيطة به من المحدثين المعلنين قد أظهروا عزيمة كبيرة في تمرير مشروعهم السياسي أو تسويقه باعتباره يشكل قطيعة حاسمة مع الميراث العمالي القديم. فهم كانوا يرفضون في الوقت نفسه خيارات الجناح اليساري المتقهقر، خصوصاً خيارات اليمين الاشتراكي الديمقراطي المتمثل في حينه بأشخاص مثل روي هاترسلي وجون سميث سلف بلير على رأس حزب العمال، اللذين ظلا وثيقي الصلة بالحركة العمالية ومتمسكين ببعض مواقف حزبهما التقليدية مثل إعادة توزيع المداخيل، وتعزيز دولة الرعاية الكينزية. وبعد مرور سنوات لا بأس بها، وضع بلير حداً لثمانية عشر عاماً من حكم المحافظين من نوع “اليمين الجديد”. وبات من الواضح أكثر فأكثر أن “الاتجاه العمالي الجديد” ليس جديداً بالقدر الذي يود تصويره رئيس الوزراء البريطاني وحلفاؤه. وأصبح بلير يعرف على صعيد عالمي بأنه المنظر ل”الطريق الثالث” الذي يعتمد من الناحية الإيديولوجية على إعادة طرح القضايا والموضوعات التي كان حزب تاتشر الراديكالي يتعرض لها وهي: خفض الضرائب، وفرض القانون والنظام، مع الإلحاح على تطبيق القيم الاشتراكية المتمثلة في الحرية وتكافؤ الفرص والتضامن. لقد أراد حزب العمال الجديد أن يقدم إجابات يسارية ذكية على تحديات العولمة الليبرالية، إذ إن طريقته الاشتراكية -الديمقراطية الواضحة- تمنح دورا نشيطا للدولة، على نقيض مارغريت تاتشر التي كانت تريد دولة “ضئيلة” إلى أقصى حد، وتعتقد أنه يجب الاختيار بين الازدهار الاقتصادي، والاستثمار في القطاع العام، الذي أهملته بصورة كبيرة جدا. ويقول بلير وجوردون براون رئيس الوزراء الحالي عن نفسيهما إنهما “رجلان من اليسار”. فهما يؤمنان بالعقد الاجتماعي، وبالمصلحة العمومية -حليفة أم لا للقطاع الخاص- وبضرورة مساعدة الفقراء عن طريق الموازنة والضرائب. ويعتقد بلير وبراون، بأن الفاعلية يجب أن تكون في خدمة دولة الرفاهة الكينزية المجددة ومن وجهة نظرهما، ليس للدولة دور خلق الثروات، وإنما تهيئة المحيط لتكوينها فقط. وعملا في آن معا على التوفيق بين اليسار واقتصاد السوق لتحريض المواطن على التحرر من وصاية الدولة وتحمل مسؤولياته. ولا شك أن طموح هذا الرهان يتعدى المجال البريطاني. وفيما يتعلق بتحديات العولمة، قام كل من بلير، وأنطوني جيدنز عالم الاجتماع وصاحب فكرة “الطريق الثالث” بكيل عبارات الإطراء والمديح لعملية التحديث الجذري التي طالت الديمقراطية الاشتراكية الدولية، إذ إنهما يعتبران الوسيلة الوحيدة الممكنة لتخليص الديمقراطية الاشتراكية من أجواء الغموض والالتباس الانتخابي، والتي هي وحدها أيضاً كفيلة بدعم ومساندة الطبقة المتوسطة والعاملة عامة. ويرى بلير وجيدنز أن العولمة فرصة وليست خطراً محدقاً، ومن الممكن الاستفادة من هذه الفرصة باللجوء إلى تأسيس شراكة شبه دائمة بين “رجال الأعمال” وائتلاف الحزبين الليبرالي والاجتماعي التقليديين وبين سياسة العدل والاشتراكية والسعي أيضاً إلى مكافحة التفرقة والتمييز العنصري. خلال السنوات الثلاث الأولى من حكم بلير، زرعت الصرامة في الموازنة الثقة وعززت النمو. وأكد جوردون براون احترامه “لقاعدته الذهبية”: “لا نقترض إلا من أجل أن نستثمر” ونمول نفقات العمل بوساطة المداخيل العادية للدولة. ولغاية عام 2000 خفض حزب العمال الجديد النفقات العامة بشكل قوي، ولكن خلال ولايته الثانية (2005-2001)، عملت حكومة بلير السابقة على الاستثمار المكثف في العقد الاجتماعي وفي مشروعها الكبير: تحديث القطاع العام - الصحة، والتربية والتعليم، والنقل. ومع مواصلته إعادة الاعتبار “لقيمة العمل”، استثمر بقوة من أجل إصلاح القطاع العام، وإنعاش التوظيف عن طريق النفقات العامة. وكانت نفقات الدولة قد بلغت نحو %37,5 من الناتج المحلي الإجمالي عام 2000، و%45,4 عام 2006، ومنذ عام 2001. ازدادت هذه النفقات بمعدل %4,4 سنويا، عبر تفضيل ثلاثة قطاعات: الصحة (%6,1+)، النقل (%5,1+)، والتعليم (%4,7+). وبحسب الأرقام في مجال الاستثمار في القطاع العام، استطاعت بريطانيا طمر قسم من تأخرها خلال السنوات 1980-1990، وهي المرحلة التي شهدت غيابا كليا للاستثمار من قبل الدولة، فالحكومة اليوم تنفق مرتين على كل تلميذ مقارنة بما كان عليه الوضع قبل عشر سنوات، إذ عينت 200 ألف أستاذ ومعين، و20 ألف طبيب، و70 ألف ممرضة. وازدادت موازنة الصحة ثلاث مرات منذ عام 1997، وكانت نصف فرص العمل التي تم خلقها في القطاع العام. ويظل الانتصار الرئيسي لبلير هو قهر البطالة، فالعماليون المقتنعون بأن التوظيف المدفوع له أجر هو أفضل وسيلة للتخلص من عمليات التهميش الاجتماعي، قاموا بإعادة الاعتبار “لقيمة العمل”، ومقاومة البطالة الطويلة، واستطاعوا ببراغماتيتهم أن ينتهجوا سياسة متماسكة وفعالة من خلال استهداف الفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً: الشباب، والمعاقين. على نقيض الأفكار المسبقة، اختلف مسار بلير السياسي عن مسار مارغريت تاتشر، إذ اعتبر بلير أن الإدارة الجيدة للاقتصاد هي مفتاح التماسك الاجتماعي الجيد. وعلى نقيض تاتشر، اعتقد بأن الفاعلية الاقتصادية يجب أن تكون في خدمة دولة الرفاهية المحدثة. ويكمن سر نجاح استمرار “البليرية” في المحاولة التوفيقية الإضافية التي نجح فيها بلير، بين الإشتراكية الديمقراطية والنظام العالمي النيوليبرالي. وهذه المحاولة هي نتاج لخصوصيات الرأسمالية البريطانية من جهة، وللهزائم السياسية والاجتماعية التي لحقت باليسار طوال ثمانية عشر عاما، والتي أنزلها به أكثر الحكومات يمينية في أوروبا. وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير قدم نفسه كمجدد للفكر العمالي وكقائد ل”الطريق الثالث”، إلا أن نهجه الاقتصادي والسياسي يكشف شيئا فشيئا عن أنه مهادنة مع الإرث التاتشري. فمع انقشاع غبار البلاغة تبين في شكل ساطع الاستمرار مع النهج التاتشري المتميز بضعف الضريبة على المداخيل، والتخصيصية والليونة في سوق العمل، لكن من جهة أخرى سدد “الاتجاه العمالي الجديد” ديونا مؤكدة ولو متواضعة وفاء لتقاليده الاشتراكية الديمقراطية: إعادة توزيع (خاطفة) للمداخيل، استعادة بعض الحقوق النقابية، وإقرار أول حد أدنى إجباري للأجر في تاريخ بريطانيا. ويؤكد بلير أن هذا التوليف يمثل بالضبط الانصهار من نوع “الطريق الثالث” الذي يسعى إلى تعزيزه. وعلى الرغم من محاولة بلير أن يلعب دوراً رسالياً لجهة تسويق الرؤية السياسية الشاملة للطريق الثالثة، كي تثير اهتماماً عالمياً حقيقياً، فإن “الطريق الثالثة” لا تزال ظاهرة بريطانية محصورة. بالطبع استطاع بلير أن يقوم بالإصلاحات في المملكة المتحدة، إلا أنها تبقى من دون تأثير أو صفة ريادية في باقي الدول الأوروبية. وعلى الرغم من تعميم أفكاره حول “رأسمالية الشركاء” وحول التشاركية التي قوامها “لا حقوق من دون مسؤوليات”، فإن بلير أقر أيضاً أنه من الناحية الإيديولوجية لا تزال الورشة القائمة في بدايتها. إذا فالطريق الثالث، أو “البليرية” لا تمثل في النهاية سوى محاولة توفيقية بين الاشتراكية الديمقراطية والعولمة الرأسمالية الجديدة أو النظام العالمي النيوليبرالي الذي قاده كل من ريغان وبوش وكلينتون، ويقوده الآن جورج بوش الابن، أي يمكن اعتبارها خطوة إضافية بالمقارنة مع سياسات الحكومات الاشتراكية الفرنسية والإسبانية في عقد الثمانينات. هل ستعيش أفكار حزب العمال الجديد بعد رحيل بلير؟ ان براون رئيس الحكومة البريطانية الحالي لا يوجد له أي سبب لكي يتنصل من إرث اقتصادي واجتماعي هو في حقيقة الأمر إرثه هو أكثر منه من سلفه، ولا سيما أن خصمه المستقبلي من حزب المحافظين دافيد كاميرون واعٍ جيدا، أنه بالنسبة لليمين، الخلاص يأتي على وجه الدقة من الوسط، فهو يستعير بعض أطروحات حزب العمال، كاعترافه بفضائل النفقات العامة أو لعدم التعهد بتخفيض فوري للضرائب. البليرية لم تغير بريطانيا فقط، بل إنها حلّت لونها على ثياب اليمين المحافظ. * كاتب اقتصادي أرسل الى الوسط التونسية بواسطة الكاتب التونسي توفيق المديني.