منذ إعلان رئيس حكومة تسييرالأعمال الفلسطينية سلام فياض عن تصريحاته السابقة بشأن إلغاء حق المقاومة، يدور جدل فلسطيني حول استمراريتها، لا سيما في ظل تنامي الأخطار المهددة بتصفية القضية الفلسطينية. و الحقيقة أن إسقاط حق المقاومة ليس بالأمر الجديد في الساحة الفلسطينية، إذ ارتبط تاريخيا بجدلية انتقال الكفاح المسلح من المقدس الوطني إلى المقدس الديني.فالمقاومة الفلسطينية اكتسبت شرعيتها السياسية و التاريخية في ظل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لها عندما تبنت ومارست الكفاح المسلح طريقا لتحرير فلسطين. غير أنه ،وفي عام 1974 عندما ذهب الزعيم الراحل ياسر عرفات إلى الأممالمتحدة لتحتضنه الشرعية الدولية،لم يعد الكفاح المسلح مرتبطاً بالأهداف الاستراتيجية كالتحرير والعودة. وما كان يمكن أن يصعد عرفات إلى منبر الأممالمتحدة بهذه السهولة، وكان هذا إعلاناً أن منظمة التحرير أصبحت جزءاً من السياسة واللعبة الدولية والإقليمية التي لا تسمح مطلقاً باستمرار المقاومة الفلسطينية من أجل التحرير. وبدأت منظمة التحرير التي أنشأت من أجل هدف التحرير ومنه تستمد اسمها، تتلاشى رويداً رويداً. آنذاك ، جرى توظيف العمل العسكري في خدمة خط التسوية السياسية الذي بدأ يهيمن على الساحة الفلسطينية منذ أواسط السبعينيات . وبات المطلوب من الفدائي أن يعمل في خدمة السياسي. وعلى المقاتل أن يقاتل ويستشهد من أجل أن يُحسِّن السياسي فرص المساومة. وعندما دخل السياسي إلى نفق التسوية الراهن أعلن أن مشروع المقاومة والكفاح المسلح وصل إلى طريق مسدود. لم يعد يرى أن هناك فرصة للفدائي للجهاد والاستشهاد. الفرصة الوحيدة التي بقيت أمام هذا الفدائي أن ينخرط في مشروع السياسي للإجهاز على كل نفس أو رمق في الشعب الفلسطيني ينبض بالمقاومة. لذلك أي مشروع مقاومة مهما كان لونه يوظف لخدمة أهداف سياسية تكتيكية سينتهي به الأمر إلى ما انتهت إليه منظمة التحرير طال النهار أم قصر. فما أوجدوهما اسمه "الحل الوطني" من خلال التسوية. هذه الوضعية المزرية من تراجع المقاومة ، و عدم تطويرها، أسهمت في إضعاف "المقدس الوطني" للكفاح المسلح عند فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، ولاسيما بعد أن بدأ خط التسوية يسيطر على عقول المقاتلين منذ العام 1974.فبعد أن كانت قيادة المنظمة تضفي على الكفاح المسلح القداسة في العقد الأول من عمر الثورة الفلسطينية ، بدأت تتراجع عنه لاحقا، وتحرمه كلما توغلت في تبني خيار الحل السلمي. وانطلاقامن هذا نستطيع القول، أن التراجع في الأداء العسكري للمقاومة الفلسطينية، مرّده سيبدأ إسقاط حق المقاومة بأوسلو، بل لقد بدأ مبكراً، وكان من أهم محطاته عندما أعلن عرفات في خطابه أمام الأممالمتحدة في جنيف عام 1988 نبذه للكفاح المسلح ووصفه «بالإرهاب»، في عز أيام الانتفاضة. على نقيض تراجع "المقدس الوطني"في المقاومة الفلسطينية، برز المقدس الديني في الجهاد من أجل التحرير.وتعتقد الحركات الإسلامية التي تبوأت مركز الريادة في المقاومة الفلسطينية ، أنه لا يستطيع أي حاكم أو أي قائد مهزوم أن يضع المقاومة ببساطة في بورصة السياسة ويفرط فيها على طاولة المفاوضات. فالمشكلة بدأت عندما استبعد المقدس الديني، وعندما استبعد الجانب العقائدي، بما يحمله من مخزون روحي تعبوي،في استمرار المقاومة.. وعندما لم يتم تداول هذه الأداة، الكفاح المسلح، من منظور الدين وضمن مفهوم الحكم الشرعي الذي هو في صلب عقيدة الأمة وانتمائها، وضع الكفاح المسلح لقمة سائغة للناس ليرفعه مَن يرفعه ويشطبه مَن يشطبه. لقد أحدث بروز الدور الإسلامي في المقاومة ، ومن ثم في الكفاح المسلح والعمليات الاستشهادية، حالة من الفزع لدى قادة الكيان الصهيوني، حاولوا تصديرها إلى قيادة منظمة التحرير في الساحة الفلسطينية فأطلقوا فزّاعة البديل الإسلامي للمنظمة وللمشروع الوطني الذي تعبر عنه، ونجحوا من خلال تلك الفزاعة اصطياد قيادة منظمة التحرير في شرك التسوية فجرى توقيع اتفاق "أوسلو" المشؤوم في أيلول / سبتمبر1993، الذي أفرغ منظمة التحرير الفلسطينية من محتواها النضالي ، و أسقط المقدس الوطني للمقاومة في أحابيل خط التسوية. وحاولت قيادة المنظمة أن تستثمر ظاهرة الكفاح المسلح لكي تدخل مسار المفاوضات مع "إسرائيل" الذي يمكنها من إقامة دولة فلسطينية على أي شبر من أرض فلسطين ، و لكن النتائج التي توصلت إليها عبر اتفاقيات أوسلو الهزيلة لم تكن حسبما أرادته السلطة الفلسطينية .ومع ذلك بدأت السلطة الفلسطينية تقول إن الكفاح المسلح لم يرجع لنا شبراً من الأرض وأن المفاوضات، أي المساومة وليس المقاومة، هي التي ستعيد لنا الحقوق وستقيم الدولة الفلسطينية المستقلة. و الحال هذه :لماذا تظل المقاومة المسلحة إذن، بعد أن أصبحت عبئاًثقيلا ، و لاسيما أن الولاياتالمتحدة الأميركية و إسرائيل تطالبان بضرورة تصفيتها؟ إن الوصول للدولة عن طريق المفاوضات والرهان على أمريكا وكسب تأييدها وتأييد الرأي العام الغربي لإقامة الدولة الفلسطينية، تكذبه الوقائع التاريخية وتدحضه. فالأممالمتحدة منذ قرار التقسيم عام 1947 أقرت بقيام دولة عربية فلسطينية إلى جوار دولة يهودية، وقد كررت التأكيد على حق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة في أكثر من مناسبة خاصة عام 1980 و1988 لكن، هل استطاعت الشرعية الدولية التي يتحدثون عنها زحزحة موقف "إسرائيل" قيد أنملة؟ وحدها المقاومة هي التي أوقعت "إسرائيل" في المأزق وأشعرتها بالخطر، وصرخ رابين تحت ضربات الحجارة ونار الانتفاضة، إلى أن جاءت قيادة المنظمة وأطفأت هذه النار وأخرجت إسرائيل من المأزق في عملية التفاف على نضال الشعب وتضحياته. هذا يؤكد حقيقة واحدة أن "إسرائيل" لا تفهم إلا لغة القوة، ووحدها المقاومة هي التي أجبرت "إسرائيل" على التفكير في الهروب من غزة ومناطق الكثافة السكانية من الضفة. فالذين يعتقدون أن المساومة لا المقاومة هي طريق الدولة يسبحون ضد التيار وضد قوانين هذا الصراع مع المشروع الصهيوني. أرسل الى الوسط التونسية بواسطة الكاتب التونسي توفيق المديني .