مؤتمران انعقدا الأسبوع الماضي يؤكدان بما يقطع الشك باليقين بأن الأمة الإسلامية قوة عظمى لا تقل عن الأمم الأخرى الصاعدة مناعة و مصادر و كفاءات و خبرات و معادن وطاقة و ثقافة و حضارة إلى جانب البحار و المحيطات و المضايق و الثراء الزراعي والتقدم التكنولوجي و العقول المبدعة و الضمائر الحية، بالإضافة إلى أنها تشكل أكثر من مليار و نصف من البشر، تجمع بينهم شهادة لا اله إلا الله محمد رسول الله. مؤتمر قمة الدول الثمانية المسلمة الأكبر الذي انعقد في جزيرة بالي الاندونيسية يوم 13 مايو و أعاد لأذهاننا مؤتمر باندونج في نفس اندونيسيا عام 1955 و الذي كان زلزالا في العلاقات الدولية و الاستراتيجيات الاستعمارية وهو الذي ساهم في تقليم مخالب الإمبراطورية الفرنسية و البريطانية حين هب كل من عبد الناصر العربي و هوشي منه الفيتنامي و نهرو الهندي و تيتو اليوغسلافي و شوان لاي الصيني يؤسسون كتلة عدم الانحياز و تحرير الشعوب المولى عليها بالثورة العارمة العادلة. جاء مؤتمر بالي اليوم ليجمع مواقف الدول الإسلامية القوية في القمة الخامسة لمنظمتهم وهي إيران و مصر و اندونيسيا و باكستان و تركيا و بنغلادش و نيجيريا و ماليزيا و تقرر تعزيز التعاون بين هذه الدول على أسس من التكامل لا على خلفية إرادة الإمبراطوريات الكبرى التي تسعى للهيمنة على العالم، كما قررت هذه الدول المسلمة مساندة طهران في جهودها المدنية للإفادة من حقها في طاقة نووية سلمية، و لم يهمل القادة المسلمون الكبار أيضا ملف التعاون العلمي و التكنولوجي المتقدم على قاعدة أن المسلم للمسلم أخ شقيق و ولي حميم. و كان نداؤهم من أجل رفع التضييق عن الشعب الفلسطيني البطل موقفا مشرفا. و على خلفية هذه القمة المباركة سمعنا أصوات الزعماء المسلمين ترتفع لتندد بالمناورات الصليبية المتشددة العلنية منها والسرية لتعطيل التنمية في عقر دار الإسلام و انفراد الغرب، و ربيبته المدللة إسرائيل بالقوة و التفوق و سمعنا تهديد رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان لأوروبا بعدم استعمال ما يسمى مجازر الأرمن لإقصاء تركيا من الاتحاد الأوروبي و سمعنا أصواتا عالية ترتفع لنصرة الشعب الفلسطيني الذي اختار حكامه بكل حرية و أصبح معرضا للانتقام الصهيوني بتهمة الإرهاب أي بنفس ما اتهمت به منظمة التحرير في زمن ياسر عرفات! و كتب القادة الثمانية في بيانهم بأن فلسطين دولة كاملة السيادة وبأن حكومتها الشرعية هي المؤهلة للاعتراف بأعدائها أو عدم الاعتراف بهم حتى يعترفوا هم بفلسطين. جاء مؤتمر بالي ليرسم ملامح إستراتيجية إسلامية مستقلة القرار عازمة على الصحوة من رقدة العدم كما يسميها شاعرنا الكبير أبو القاسم الشابي متطلعة للمصير الأفضل الذي لن يكون سوى مصير القوة و المناعة و التأثير لا مصير التبعية و الضعف و العبودية. فالعالم اليوم هو عالم التكتلات الراسخة العتيدة لا الشعوب المنعزلة الضالة ، و البقاء في المستقبل للشعوب المتحدة لا للدويلات المتفرقة. و قد شعرت بتلك الحقيقة أوروبا فاتحدت و الشعوب الصينية فالتأمت و أمم أمريكا اللاتينية فشكلت منظمتها و روسيا حققت اتحادها و قبلها أمريكا التي خرجت من حربها الأهلية في شكل دولة فيدرالية واحدة. الكل توحد وهم مفرقون ما عدا الأمة الإسلامية الموحدة في الأصل و التي تفرق شملها و انفرط عقدها، وهي التي جاء كتابها بمبدأ التوحيد و شكلت أقوى خلافة على وجه الأرض! فمن الغبن والعبث و سوء الحال أن تتقهقر الأمة الإسلامية و توغل في شتاتها وهي التي ظلت موحدة على مدى أربعة عشر قرنا، و أن تتوحد أمم أخرى بينما يفرق بينها التاريخ و الجغرافيا واللغة و العقيدة. المؤتمر الثاني هو مؤتمر الدوحة لعلماء المسلمين لمناصرة شعب فلسطين، و الذي دعا إلى مقاطعة المصارف التي تشارك في قطع المدد المالي عن فلسطين و في مؤامرات تجويع الشعب المحروم من وطنه منذ ستين عاما. و لو قرأتم أصداء ذلك المؤتمر لدى السفارات و وكالات المخابرات الغربية لتأكد لديكم أيها القراء الأعزاء بأن العالم يراقب عن كثب هذه المواقف الجريئة القوية و يقرأ لها حسابا، لأن المجتمعات المدنية المسلمة تجتمع و تناقش وتخاطب الرأي العام و تعزز مواقف حكوماتها إذا ما اتسمت تلك المواقف بالشجاعة والتعبير الأمين عن ضمائر شعوبها. هذان المؤتمران هما بداية طريق الألف ميل، و لعل منظمة المؤتمر الإسلامي بفضل حفاظها على مجرد الرمز تتحمل أمانة الاستمرار في تحقيق الحلم الممكن و المشروع، إذا ما طورت ميثاقها ليشمل منظمات المجتمع المدني المسلم ولم تبق كما هي اليوم مجرد صدى رسمي لحكومات متعاقبة و أحيانا متناقضة، و تخلصت من الروتين الذي مع الأسف يصيب هذه المنظمات بداء الاحتقان و التكلس إذا ما فقدت وسائل الابتكار و الإبداع و التلاؤم مع العصر.