عنوان قراني لكتاب جديد صدر عن مركز الحضارة العربية للنشر بالقاهرة للزميل التونسي الدكتور خالد الطراولي الذي يعيش في باريس كمئات من أبناء وطنه العربي الكبير من تلك النخبة المهاجرة و التي أصبحت تشكل دياسبورا عربية مثقفة كان أجدر بها أن تعيش في أوطانها و تساهم في تقدمها و نهضتها. و الكتاب جملة من الفصول التحليلية لإشكالية التوفيق بين الديمقراطية و مجتمعاتنا، عرف خالد كيف يخرج بها عن النموذج التونسي الذي يعرفه أكثر من سواه إلى النماذج العربية الأخرى، مما أعطى للكتاب طابع الشمول و جعله يهم القراء العرب أينما كانوا. و الكتاب يكتسي نبرة التفاؤل النضالي أي أنه لا يقع في مطبات اليأس من الإصلاح، بل يقدم برنامجا متكاملا لخطوات الإصلاح لا من منظور المنظرين الغربيين بل من زاوية التراث الحضاري العربي الإسلامي الثري بالمواقف و البطولات و الملاحم. يقول الكاتب: " لعل الديمقراطية كيان غريب عن أجسامنا لا تستسيغه عقليتنا و ثقافتنا و تقاليدنا، أو لعلنا لسنا أهلا لها؟ و لكن عجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء، و إرادة الشعوب إن سعت إلى الخلاص لا ترد، و العالم قرية، و لحظة الصفر الحضارية قد حان أوانها، يقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أيها الناس إن هذا أمركم و ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم.." و تتلاحق بعد ذلك فصول الكتاب لتحلل طريق الأشواك بين الاستبداد و الديمقراطية و مبدأ المستبد العادل و واجب الجماهير في معادلة التغيير بين ارتجاج الثقة و غياب السند و بين الغفلة و الاستخفاف، ثم يتطرق الكاتب إلى اقتراح مشروع البناء الذي يتلخص في تقييمه في التحول من ثقافة المواجهة إلى ثقافة المصالحة و المصالحة لديه هي مبدأ و منهاج و ثوابت، وهو يقترح التوفيق بين الخيارات الإسلامية و الخيارات الحداثية أو حتى تلك التي تعارضها كمخرج من حالة التأزم و الاحتقان. وعن هذه المسيرة يقول الكاتب بأن الإصلاح هو مسار تغييري و ليس ورشة ترقيع، يتأسس على نضج و رشد، و ينطلق من الواقع ليعود إليه، لا يحتمل الإسقاط و الانعزال و التقوقع.لا يمكن أن ينجح إذا لم يرافقه إطار سلمي من التعددية و الحرية و الديمقراطية و المصالحة الوطنية. فخالد الطراولي يبتعد عن الحقد و التطرف و رد الفعل ليؤسس مع العديد من أبناء الحركات الإصلاحية الأصيلة مدرسة المصالحة و التدرج الذكي الواعي في مسيرة التغيير. إن من اللافت أن يكون خالد من بين المنادين بالتصالح كمدخل للإصلاح، و قد قام بالدعوة إلى مبادرة من هذا النوع لكن الأحداث أكدت بأنها غير واردة اليوم ، و أنا أحسب و الله أعلم أن المحيط الدولي غير ملائم، و خاصة بعد زلزال الحادي عشر من سبتمبر الذي هز أركان العالم و القانون الدولي و العلاقات الدولية و أفسح المجال للإمبراطوريات الصليبية الجديدة أن تفرض قراءتها للمصير البشري كما تراه و حسب مصالحها لا حسب مصلحة السلام والأمن للناس أجمعين. فكان أن تغيرت التوازنات التقليدية مهيأة لضرب الإسلام كحضارة لا لضرب الإرهاب كظاهرة دخيلة و استثنائية لها أسبابها الداخلية و العالمية المعروفة. يقول الكاتب:" لما أطلقت بكل تواضع مبادرة المصالحة بين المشروع الإسلامي و السلطة، كانت محاولة إلحاق المشروع الإسلامي بالركب و إعادة هذا الابن البار إلى حظيرة التعامل السلمي و الحضاري و الديمقراطي فكرا و ممارسة و الذي غادر إطاره اضطرارا لا اختيارا فكانت المأساة و كانت سني العذاب، فالمصالحة ليست يافطة لحظية بل عنوان و خطاب مبدئي و عقلية ثابتة و سلوك حضاري دائم". و ظل الكاتب في كل فصول كتابه مسكونا بهاجس المستقبل، يحاول تحليل و استشراف المصير بعيدا عن الغلو و التشدد و مسلحا بالتراث و تجارب الأمم و مواقف المصلحين الأوائل. و كنا نتمنى لو أتيح الحوار الحر المتوازن داخل المجتمعات العربية التي تعاني جميعا من تفاقم الصدام بين الرؤى و البرامج و الإيديولوجيات لا أن يقتصر الحوار على تلك النخبة العربية المتواجدة في الغرب مغتنمة ما توفره الديمقراطيات الغربية من هامش الاختلاف الذي لا يجرم و هامش الاتفاق الذي يحرك السواكن. و نحن نضع كتاب الديمقراطية و رحلة الشتاء و الصيف ضمن هذا الإطار أي ضمن الفكر المهاجر الذي نرجو أن يعود إلى أوكاره كالطيور المهاجرة وهو المعنى البعيد لفكرة رحلة الشتاء و الصيف. و إن أفضل مكسب لهذا الكتاب القيم هو أنه أفسح المجال لمناقشة مبدأ الوفاق الوطني لدى كل المجتمعات العربية في انتظار الإصلاحات العميقة المنشودة. و الكتب الأخرى التي تناولت هذا المبدأ كثيرة و لكنها تبقى لأسباب نجهلها غير متبوعة بنقاشات وطنية واسعة كما هو الشأن في قضايا الغرب و شؤون مصيره. نظل وحدنا نحن العرب نجرم الرأي المختلف و لو كان مثالا للاعتدال و التنازل و الوفاق ونظل وحدنا العرب أيضا نكفر المخالف لنا ونعلن الحرب العشواء على من نعتقد أنه على خطأ متناسين حكمة الإمام الشافعي الشهيرة بخصوص الاختلاف و سماحة التواضع. و لعل الزميل الفاضل خالد من أول المثقفين الذين اقترن فكرهم بسلوكهم في هذا المجال فهو الذي أسس منتدى اللقاء مناديا بجعله فضاء حوار بين المؤسسة الرسمية و المواطنين بدون أفكار مسبقة أو قوالب إيديولوجية معيقة، بل بالقلب المفتوح و اليد الممدودة للمصافحة بعيدا عن الأحقاد و المساومات و الحسابات