فى طبعة أنيقة صدرت المجموعة القصصية الجديدة للكاتبة البولونية مونيكا دال ريو المترجمة للعربية والفضل فى ذلك يعود إلى الدكتور محمد صالح بن عمر الذى عرفنا على قصص هذه الكاتبة من خلال الأبجدية ولغة الضاد حين قدمها إلى القارئ التونسى والعربى من خلال ترجمة أولى لمجموعتها القصصية "وإذا لم تكن الحياة سوى حلم" وكان ذلك سنة 2002. "ولا شك فى أن الوسط الثقافى التونسى لا يزال يذكر الفنانة والكاتبة البولونية مونيكا دال ريو Monika Del Rio التى حلت ببلادنا سنة 1998 لتستقر فيها خمس سنوات قبل أن تغادرها نهائيا سنة 2003، وذلك لما تميزت به إقامتها، طوال تلك الفترة بيننا من مشاركة نشيطة لافتة فى حياتنا الثقافية بفضل حركيتها وتعدد مواهبها. فقد أتيح لعشاق الموسيقى الكلاسيكية أن يستمتعوا بمعزوفاتها الراقية على البيانو فى فضاءى النجمة الزهراء بسيدى أبى سعيد والأكروباليوم بقرطاج وقناة تونس 7 التلفزية. كما كان لأحباء الفنون التشكيلية مواعيد مع معارض لوحاتها بنادى الطاهر الحداد ورواق يحى للفنون بالبلماريوم وقصر السعادة بالمرسى والمركز الثقافى الروسى بتونس. أما هواة الأدب فلم ينسوا المحاضرات التى ألقتها عن العلاقات التونسية البولونية والأدب التونسى بنادى قدماء الصادقية وقصر السعادة بالمرسى، كما تابعوا ما نشرته من قصص ومقالات نقدية وحضارية بعدة دوريات تونسية وعربية". هذه هى الكاتبة مونيكا دال ريو فى سطور كما حاول أن يقدمها الدكتور صالح بن عمر فى مقدمة هذه المجموعة القصصية. ولأن هذه الكاتبة قد ظلت وفية لتونس التى عاشت فيها ردهة من الزمن فإن الدكتور محمد صالح بن عمر قد ظل وفيا هو الآخر ولم يخيب أفق انتظار القارئ والمطلع على هذه الترجمة التى والحق يقال جاءت متقنة ورغم أنه "كل ترجمة هى خيانة" للغة الأم فإن هذه الترجمة حاولت أن لا تخون النص الأصلى رغم أنها تمت عن لغة ثانية وسيطة هى اللغة الفرنسية لذلك أكد الدكتور محمد صالح بن عمر على كلمة تعريب أكثر من ترجمة. ومهما يكن فإن هذا المجهود الذى بذله يذكر فيشكر سيما أن العمل يتحدث عن "سواحل قرطاج" وعن "أعالى سيدى أبى سعيد" وعن "مطماطة" وهى عناوين الأقصوصات التى عربها المعرب إلى جانب عدة أقاصيص أخرى امتدت على 139 صفحة مثل "بخنة الأرنب" و"تبن" و"ضوء القمر" و"البعد الآخر للزمن" و"النادي" و"ساعة الموت" و"الحلقة المغلقة" وكل هذه القصص مستوحاة من طبيعة تونس وأماكنها الخلابة خلال الفترة التى قضتها الكاتبة فى تونس. "هذا من حيث الغرض العام. أما من حيث الموضوعات المطروقة فتعترضنا الأزمات النفسية والأسئلة الوجودية نفسها التى لم تفتأ تؤرق الكاتبة، فيما يبدو، منذ طفولتها الأولى دون أن تجد لذلك أسبابا منطقية واضحة، لا سيما الخوف من المستقبل والإحساس بأنها مطاردة من قبل قوى خفية تتربص بها شرا وبأن الروح التى فى داخلها إنما هى روح شخص آخر عاش فى مكان وزمان بعيدين". ولعل ما يشد الانتباه فى هذه المجموعة القصصية هو التقنية المعتمدة فى الكتابة والتى تتداخل فيها وتتمازج الألوان الإبداعية والتعبيرية على اختلافها فنرى انبهارا بين الرسم والفلسفة والموسيقى وتحايث الحلم والواقع ولعل هذا ما لمسناه فى المجموعة القصصية الأولى لهذه الكاتبة مثلما يقول المعرب لأن "المؤلفة بقيت وفية إلى حد بعيد، للأسلوب الذى اعتمدته فى مجموعتها الأولى. وهو يقوم على المزج بين الحلم والواقع وما يستتبعه من تشظية للأحداث والأمكنة والأزمنة وملامح الشخوص وتوظيف الخارق والاستخدام المكثف لتيار اللاوعى والإفادة من تقنيات الرسم التعبيرى والتوزيع الموسيقي. وما ذلك بغريب، مادامت هذه المهج متفاعلة فى ذات المؤلفة أيما تفاعل، فيكون من الطبيعى إذن أن تسم نصوصها على نحو عميق بارز. على أننا نجد قصص مونيكا فى هذه المجموعة الثانية ألصق بالواقع منها بالحلم وإن بقى لهذه الملكة حضور مهم فى بعض النصوص. فهل نحن إزاء تطور فى الرؤية بحكم تقدم الكاتبة فى السن واتساع مجال تجربتها فى مضمار الحياة أم هل يتعلق الأمر بخوضها لتجربة أخرى موازية ليس غير؟". بمثل هذا السؤال الذى طرحه المعرب يمكن أن نلج عالم مونيكا دال ريو القصصى ونقرأ باستمتاع وحيرة فى نفس الوقت أقاصيص هذه المجموعة حتى نتعرف أكثر على هذا التحايث الكبير بين سحر الشرق الكبير الملهم للكاتبة وآخر النظريات التقنية والنقدية التى تنظر للأدب فى الغرب. ويبقى هذا العمل الذى بين أيدينا من المجهودات التى تحاول أن تعرف القارئ التونسى والعربى بما يكتب عنا وبنظرة الآخر لنا. وهو مجهود لا بد من تثمينه لأن الشعوب تظل قابعة فى آخر القافلة الحضارية إذا لم تع قيمة الترجمة التى يلزمها مجهود مؤسسات كبرى وهو ما لا نجده فى العالم العربى الذى تظل الترجمة فيه رهينة مجهود أفراد ولعل هذا ما جعل تونس تعى هذا الدور الكبير للترجمة وقدرتها على لعب دور مهم فى التنمية الثقافية والاجتماعية لذلك تقرر أن تكون سنة 2009 سنة للترجمة فى بلادنا وذلك حتى نخرج قليلا من دائرة الإحصائيات التى تبين أن دولة مثل اليونان تترجم ما تترجمه الدول العربية مجتمعة.