عاجل/ إحباط عملية انتحارية واعتقال عملاء للموساد في ايران..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    50 مقاتلة تشن غارات بطهران وصواريخ "فتّاح" تستهدف إسرائيل للمرة الأولى    ايرادات السدود ارتفعت ب 200 مليون متر مكعب بالمقارنة مع العام الماضي    أنس جابر تواجه اليوم جاسمين باوليني في ثمن نهائي بطولة برلين للتنس    بيب غوارديولا.. عائلتي تحب تونس    نسبة امتلاء السدود بلغت حاليا 55 بالمائة    إيران تفكك شبكات جوسسة وتنفذ اعتقالات وتضبط ورشة سرية    حرب الابادة متواصلة.. 93 شهيدا بغارات صهيونية على نقاط توزيع المساعدات في غزة    لردع مهربي السيارات ...اليوم تجهيز 11 معبرا حدوديا بآلات متطورة    صدور أمر بالرائد الرسمي يقضي بمنع المناولة في القطاع العام وبحل شركة الاتصالية للخدمات    مجموعة التعاون البرلماني مع بلدان افريقيا تعقد جلسة عمل مع ممثلي وزارة الخارجية    تدشين أقسام طبية جديدة بمستشفى شارل نيكول باستثمارات تفوق 18 مليون دينار    إختيار 24 عينة فائزة في الدورة الثامنة لجائزة أحسن زيت زيتون تونسي بكر ممتاز    ملتقى تونس الدولي للبارا العاب القوى (اليوم الثاني) تونس تحرز خمس ميداليات جديدة من بينها ذهبيتان    فلاحتنا... وزير الفلاحة في المؤتمر الإقليمي «صحة واحدة مستقبل واحد».. الأمراض الحيوانية تتسبب في 60 ٪ من الأمراض المعدية للبشر    مع تراجع المستوى التعليمي وضعف التقييم...آن الأوان لإجبارية «السيزيام»؟    تدشين قسم طب الولدان بمستشفى شارل نيكول بمواصفات متطورة    ضاحية مونمارتر تحتضن معرض فني مشترك بين فنانة تونسية وفنانة مالية    "عليسة تحتفي بالموسيقى " يومي 20 و 21 جوان بمدينة الحمامات    صفاقس: تنظيم يوم الأبواب المفتوحة بمركز التكوين والتدريب المهني بسيدي منصور للتعريف بالمركز والإختصاصات التي يوفرها    الدورة الأولى لتظاهرة "لقاءات توزر: الرواية والمسرح" يومي 27 و28    عاجل/ بلاغ هام حول التجارة عبر الانترنات    حياتي في الصحافة من الهواية الى الاحتراف    اصدارات جديدة لليافعين والاطفال بقلم محمود حرشاني    باجة: اعادة اكثار واحياء قرابة 5 الاف صنف من الحبوب بنجاح    شنيا الماكلة اللي تنفع أو تضرّ أهم أعضاء بدنك؟    الملعب التونسي يعزز صفوفه بالحارس نور الدين الفرحاتي    تحذير طبي: خطر الاستحمام بالماء الساخن قد يصل إلى الإغماء والموت!    المنتخب التونسي يشارك في بطولة افريقيا للرقبي السباعي بالموريس يومي 21 و 22 جوان الجاري    منوبة: فتح الجزء الثاني من الطريق الحزامية " اكس 20 " بولاية منوبة    قفصة : حلول الرحلة الثانية لحجيج الولاية بمطار قفصة قصر الدولي وعلى متنها 256 حاجا وحاجة    المائدة التونسية في رأس السنة الهجرية: أطباق البركة والخير    بُشرى للفلاحين: انطلاق تزويد المناطق السقوية بمنوبة بمياه الري الصيفية    الحرس الثوري الإيراني يصدر بيانا حول ضرب مقر "الموساد"    تعرفش علاش الدلاع مهم بعد ''Sport''؟    ماهر الكنزاري : " أشعر بالفخر بما قدموه اللاعبون"    الدورة 12 من الملتقى الوطني للأدب التجريبي يومي 21 و 22 جوان بالنفيضة    ترامب يهاجم ماكرون بعنف: ''لا يعرف سبب عودتي... ويُطلق تكهنات لا أساس لها''    قائد عسكري إيراني: شرعنا باستخدام أسلحة جديدة ومتطورة    عاجل/ رئيس الدولة يفجرها: "لا أحد فوق المساءلة والقانون..ولا مجال للتردّد في إبعاد هؤلاء.."    6 سنوات سجنا لنائب سابق من أجل الإثراء غير المشروع    مطار طبرقة عين دراهم الدولي يستأنف نشاطه الجوي..    الطقس اليوم: حرارة مرتفعة..وأمطار مرتقبة بهذه الجهات..    موعد إعلان نتائج البكالوريا 2025 تونس: كل ما تحتاج معرفته بسهولة    أبرز ما جاء في لقاء رئيس الدولة بوزيري الشؤون الاجتماعية والاتصال..    عاجل/ آخر مستجدات أخبار قافلة الصمود لفك الحصار على غزة..    عدد ساعات من النوم خطر على قلبك..دراسة تفجرها وتحذر..    رونالدو يهدي ترامب قميصا يحمل 'رسالة خاصة'عن الحرب    كيف سيكون طقس اليوم الثلاثاء ؟    كاس العالم للاندية : فلامنغو البرازيلي يجسم افضليته ويتفوق على الترجي بثنائية نظيفة    الكوتش وليد زليلة يكتب .. طفلي لا يهدأ... هل هو مفرط الحركة أم عبقري صغير؟    المندوبية الجهوية للتربية بمنوبةالمجلة الالكترونية «رواق»... تحتفي بالمتوّجين في الملتقيات الجهوية    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الآخر في الخطاب الإسلامي في الغرب:من الغيرية إلى المواطنة


الهوية صورة الغير ذاتيا :
لعل مفهوم الغيرية ألصق المفاهيم بمفهوم الهوية. ذلك لأنه يطرح مباشرة مسألة آليات التشكل الداخلي للهوية و طرق تعالقها مع النظرة للآخر و كيفية تحديدها لحدودها في مناقضة معه، وفي دأبها المحموم لضبط صورة له تكون بمثابة ماهية له تستدعيها هذه الهوية بشكل ايجابي أو سلبي، كلما دعت
الحاجة - حاجة السجال الثقافي غالبا - إلى ذلك.
و مفهوم الصورة أيضا ألصق المفاهيم بمفهوم الغيرية و الهوية معا، فصورة الإنسان عن نفسه و عن غيره هي ما يتصوره من ماهية له، و التصور كما يسطر ذلك ابن منظور هو التوهم(1). فيكون مفهوم الصورة بذلك لصيق بالمحتمل، فصورة هذا الغير قد تكون فيها كثير من عناصر الواقع كما قد تتخللها مسوح عريضة من الخيال و الوهم إن لم نقل كثير من التقول و الافتراء.
و الصورة إضافة إلى ذلك لا تروم ضبط ماهية الغير فحسب بل في سعيها هذا هي حاملة لا ريب لتمثلات
الذات لنفسها، فهي وعي بالذات و بالغير في الوقت نفسه. (2)
الغيرية في الثقافة الإسلامية:
إن تجربة المسلمين مع الآخر المختلف دينيا و عرقيا و حضاريا ليست وليدة عصرنا، بل ما فتئ المسلمون مند مجتمع يثرب يتعاملون مع رؤى و ديانات و ثقافات و حضارات مختلفة..و في كل مرة كانت" الرؤية الكونية "الإسلامية التي تؤسس ثقافتهم تردفهم بمجموعة من الضوابط الأخلاقية و المحددات الفكرية و القيمية للتعامل مع الآخر.
فالغيرية الثقافية و الدينية كانت منذ انبثاق المجتمع الإسلامي الأول عنصرا مؤسسا في صميم البناء الثقافي و السياسي و المعرفي للاجتماع الإسلامي، و كانت بالتالي موضوعا للبحث الفقهي و الكلامي و الفكري. فتأطير العلاقة بالآخر أخلاقيا و اجتماعيا مسألة تدخل في صميم الاهتمامات الفقهية.
أما في علم الكلام فقد شكلت المناظرة بما هي مطارحة فكرية و معرفية حول موضوعات عقائدية و خلافية بين المسلمين و غيرهم مهمازا حقيقيا تتجلى فيه اعتراف الاجتماع الإسلامي بالغيرية الثقافية رغم الاختلاف العقائدي و الديني.
ليس من شك أن التصور القرآني هو المصدر الأساسي لهذا الاعتراف بالآخر المختلف. فقد توجهت كل الآيات القرآنية في هذا الموضوع إلى التأكيد على طبيعة الاختلاف في الاجتماع الإنساني (و لذ لك خلقهم)(3). بل إن القرآن الكريم يذهب بعيدا إلى اعتبار هذا الاختلاف بنية غائية في طبيعة الوجود الإنساني نفسه.
و قد كان تفاعل المسلمين مع هذه الحقيقة القرآنية يتفاوت حسب الحقب التاريخية، ففي أوقات الاحتقان و التوتر الاجتماعي اتجه الفقه إلى التضييق بل و التزحزح عن الرؤية القرآنية بمقدار و طبيعة التوتر، و في فترات الازدهار و الانفراج كان التفاعل الفقهي مع هذه الحقيقة في أعلى مستوياته و أوسعها.
و يكفي للتدليل على ذلك الإشارة إلى أن الفقهاء وسعوا من مفهوم أهل الكتاب ليشمل ديانات أخرى كالمنوية و الزرادشية لم تكن موجودة في الجزيرة العربية.
و تقدم لنا كتب الفرق و الملل و النحل رؤية انتربولوجية ثقافية متقدمة لغيرية الآخر. فالموسوعيون من أمثال الشهرستاني و الجاحظ و البكري و المقريزي و أبي حيان التوحيدي يسطرون، بموضوعية فائقة و بإعجاب أحيانا كثيرة، مفاخر و مميزات الأعراق و الحضارات ، فهذا الجاحظ مثلا يتحدث عن حكمة اليونان و اختراعاتهم و حذاقة الصين للصناعة و شهرة الفرس بالسياسة و التدبير و مهارة النصارى في الطب و الكفاية المالية.
تشكل الخطاب المعرفي الإسلامي إذن منذ بواكيره الأولى في جدلية من الحوار و التناص مع غيريات ثقافية متعددة وذلك عن طريق آليات ثقافية مختلفة كالمقايسة و المقارنة و المقاربة و التناص و التعالق و النقد و النقض...فالآخر كان بعدا معتبرا في الخطاب الإسلامي منذ تأسيسه.
صدمة الغرب: الآخر بعد من أبعاد الهوية:
منذ ما يسميه كثير من مؤرخي النهضة في العالم الإسلامي الحديث و المعاصر ب"صدمة الغرب" التي أحدثتها حملة نابوليون ضد مصر سنة 1897 أصبح التفكير في قضايا مثل التقدم و النهضة و الحضارة و التجديد لا يتم إلا عبر المقاربات و المقارنات و المقابسات مع ما عند الآخر و ما له، الآخر الغربي تحديدا.
و من ثم انطوت بنية هدا الفكر في عمقها على ثنائية الذات و الآخر، فكثير من الأسئلة المنطرحة على الفكر الإسلامي المعاصر هي وليدة استحضار ما يطرحه هدا الآخر من إشكالات معرفية و حضارية على الذات، بل حتى فيما يتعلق بالبحث في الذات و العودة إلى استكشاف مكوناتها التاريخية و استكناه ثوابتها المعرفية تكون المقاربة و المقارنة مع مفاهيم الغرب حاضرة، بشكل مباشر أحيانا و بشكل مستبطن أحيانا كثيرة، و لنستمع إلى رشيد رضا مثلا و هو يؤصل لمفهوم يفترض أنه ينتمي إلى الحقل التداولي الإسلامي، يقول:
"لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم المقيد بالشورى أصل من أصول الدين، و نحن استفدناه من الكتاب المبين، و من سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوربيين و الوقوف على حال الغربيين. فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت و أمثالك أن هذا من الإسلام"(4)
فما سماه رشيد رضا ب"اعتبار حال " هؤلاء القوم ما هو إلا عنصر من عناصر الغيرية التي تشكل ركنا أساسيا في عملية إعادة استكشاف الهوية.
لكن حضور هذه الغيرية ليس دائما خاضعا للوعي، فما أكثر ما تقوم الذات بالنقد و النقض و الرفض لكثير من الأفكار و المناهج الواردة و الوافدة، لكنها بشكل غير مباشر (أو لا واع) تستبطن كثيرا من إشكالات الغير بل و حتى بعض الأجوبة عن هذه الإشكالات. ألم يقل ابن تيمية عن أبي حامد الغزالي أن "شيخنا مريض و دواءه الشفاء"أي كتاب الشفاء لابن سينا.فإن بن تيمية هنا يعيب على الغزالي "امتصاصه" اللاواعي لكثير من مقالات الفلاسفة وذلك رغم نقده الشديد لمنظوماتهم و كتبهم في كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة" و كذلك قال عنه تلميذه أبو بكر بن العربي" شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر"(5).
كذلك كان الأمر مع الفكر الإسلامي المعاصر في علاقته بالثقافة الغربية، فكثيرا ما مارس هذا الفكر الرفض بشكل صاخب لكثير من مقولات الآخر في حين كان اشتغاله قائما على أساس إشكالات طرحت عليه من قبل هذا الآخر، فاستحضار الغيرية إذن أصبح عملية استبطانية من صميم عمل الهوية ، سواء في تصورها للغير أو لذاتها.
لكن على العموم تبقى حدود هذه الأنا و حدود ذلك الآخر متمايزة وواضحة بالنسبة للمفكرين و الدارسين و ممارسي الشأن المعرفي في العالم العربي الإسلامي .، متمايزة و واضحة تمايز و وضوح الحدود الجغرافية أولا و الثقافية ثانيا، و بالتالي تكون العناصر الثقافية المتعلقة بالذات داخل الخطاب الفكري في العالم الإسلامي و اضحة المعالم على الأقل في مستوى البنية السطحية. فالتقابل أو التماهي و التصنيف و المقارنة و المقاربة تكون على أساس ثنائية الأنا و الآخر، و في هذا السياق تكون لهذه الثنائية أرضية منطقية و جغرافية و ثقافية واضحة.
لكن ليس الأمر كذلك فيما يخص الخطاب الإسلامي في الغرب، و هي الفرضية التي نقدمها بإيجاز في هذا المقال. فما المقصود بالخطاب الإسلامي في الغرب و ما هي مميزاته و كيف تتحدد علاقته بالآخر ؟ و ما هي صيغة هذا الآخر الذي يستبطنه هدا الخطاب؟
الخطاب الإسلامي في الغرب : الهوية المغايرة:
لم يدر بخلد الآلاف من المسلمين الأوائل الذين هاجرو إلى الغرب و تحديدا إلى أوربا ابتداء من المنتصف الثاني للقرن العشرين أنه سيأتي عليهم يوم يعتبرون فيه أنفسهم مواطنين في الغرب، ذلك الذي شكل لهم طوال قرنين من الزمن "آخرا" يقيسون به أو ضده مفاهيمهم و "تقدمهم" و يرون فيه وجوها متناقضة بعضها يحلمون بالوصول إليه ، و بعضها كانوا يرفضونه و ينفرون من الأخذ به.
كان المسلمون الأوائل يعيشون نمطا معيشيا "مؤقتا" حيث حلم العودة إلى مواطنهم ما فتئ يراودهم رغم مرور سنين معتبرة على وجودهم في الغرب، و رغم نسج أنواع كثيرة من الارتباطات العضوية بالمواطن الجديدة.
"حلم العودة " لم يكن ذا ارتباط بإرادة العودة إلى الوطن فحسب بل كان يترجم هموم "الهوية" التي ارتطمت بغيريات مختلفة في الغرب أو بعبارة أخرى بغيرية ذات مستويات متعددة. فهناك الغيرية الاجتماعية حيث إن المسلمين كانوا ينتمون غالبا إلى فئات اجتماعية متوسطة أو أقل نسبيا بالنظر إلى طبيعة القطاعات المهنية المتواضعة التي يعملون بها أو المخصصة إلى الأجانب بعمومهم.هذا الاختلاف الاجتماعي كان من عوامل "انكماشهم" في البداية و انكفائهم نحو "الهوية" أي هويتهم كما كانوا يتصورونها.
كما ارتطموا بغيرية ثقافية لا تتجلى فقط في الاختلاف الديني مع أقوام "المواطن" الجديدة بل حتى على مستوى ما يمكن أن نسميه بالتنظيم التقني للحياة الاجتماعية مثل طرق التربية و التعليم و أولويات الحياة الاجتماعية و كيفيات إدارة الاختلاف الفكري و الاديولوجي، هذا إضافة إلى غيرية إثنية و عرقية لعبت دورا أحيانا كثيرة في الدفع نحو الإحساس بما يسميه بعض الدارسين ب"جرح الهوية" أو "أمراض المنافي".
انكفأ المسلمون في المرحلة الأولى إذن على أنفسهم عبر ردود أفعال ضد غيريات بدت لهم غير منسجمة بل مهددة لهويتهم. لهذا كانت المساجد في مرحلة أولى، بل و حتى بعض أماكن الترفيه العمومية كالمقاهي، تتسم بنوع من الانغلاق و الانكفاء، هروبا من احتكاك الهوية مع أي نوع من الغيريات الثقافية و الاجتماعية.
و نتيجة لذلك لم يكن المسلمون في هذه المرحلة فاعلين بقدر ما كانوا موضوع بحوث اجتماعية و انثربولوجية لم تنفلت من إسار النظرة المركزية الأوربية التي اتسمت بها أعمال الانتربولوجية الكولونيالية في ثلاثينات و أربعينيات القرن الماضي، مع الفارق أن هذه الدراسات توسلت بمفاهيم سوسيولوجية غامضة و غير دقيقة من مثل مفهوم الاندماج و الإخضاع الخ..(6).
أما انكفاء المسلمين الأوائل في الغرب نحو "الهوية " لا يعني بأي حال أن إدراكهم لعناصرها كان عميقا ، بل إن كثيرا من مظاهر هذا الانكفاء تدل على أن تصورهم للهوية كان محدودا في الحدود الفقهية من مثل استعمالهم لمفاهيم فقهية إجرائية مثل دار الحرب و دار الإسلام و فقه الأقليات، في غياب أي وعي حضاري شامل لطبيعة وجودهم في الغرب و للسياق السوسيوثقافي الذي يعيشون فيه.
طبعا كان لهذه الصبغة "العرضية" التي كان المسلمون الأوائل (الجيل الأول) يتعاملون بها مع واقع وجودهم في الغرب نتائج سلبية في كثير من مناحيها. .ليس أقلها الاختلالات الأسرية و الشللية الاجتماعية و التعليمية التي شكلت مرة أخرى "موضوعا" دسما لكثير من الدراسات السوسيولوجية ابتداء من ثمانينيات هدا القرن.
لكن سرعان ما سيدخل المسلمون مرحلة جديدة من وجودهم في الغرب، حيث سيزداد ما تسميه جوزلين سيزاري ب "الظهور الاجتماعي"(7). تتميز هذه المرحلة –التي ما زالت قيد التشكل- بدينامكية عالية و فعالية اجتماعية ملحوظة للمسلمين. فبالإضافة إلى تعزيز هذا الوجود –ديمغرافيا و نوعيا- بنخب ثقافية وافدة من العالم الإسلامي بدأت فئات جديدة من الأجيال في النشوء، و هي لا تعرف لها وطنا غير الذي تشكلت فيه شخصيتهم و الذي تحددت فيه ملامح هويتهم جغرافيا و ثقافيا.
بدأت معالم خطاب إسلامي جديد و ناشئ تتحدد. فالمسلمون، عموما، و النخب الفكرية منهم على الخصوص، بدأوا يستوعبون أهمية قراءة جديدة لمعطيات الهوية الإسلامية حسب السياق الثقافي و الحضاري الذي يوجدون فيه. و من ثم بدأت عملية استكناه مكونات هذه الهوية على ضوء الإشكالات و الرهانات التي يطرحها واقع الغرب المختلفة حتما في كثير من ملامحها عن الإشكالات و الرهانات التي يطرحها واقع العالم الإسلامي.
بدأ الوعي بأن "العقل المسلم" ليس ذي صبغة جوهرا نية،أي أنه فعالية قابلة للتجديد و التأقلم بل و ارتياد آفاق مختلفة باختلاف السياقات الثقافية و الحضارية. ليست الهوية أيضا قالبا متكلسا بل هي تشكل و تشكيل مستمر للذات قابل أيضا لاكتساب خصائص قد تختلف من سياق ثقافي إلى آخر.
و بدأ كثير من الفاعلين الثقافيين يستنبتون في منظوماتهم المعرفية مفاهيم كالمواطنة الكاملة و تجنب الهامشية الاجتماعية و الانخراط الثقافي في مختلف مستويات المجتمع.
بموازاة لذلك طرحت أسئلة عميقة حول مكونات الهوية و معالمها في ضوء التحديات و السياقات المحيطة بالوجود الإسلامي في الغرب.
و بالفعل، على المستوى النفسي، ظهر جيل جديد من المثقفين المسلمين بالغرب لا يشعرون بأي تناقض سيكولوجي أو منطقي بين انتمائهم إلى الإسلام و مواطنتهم في ا لبلاد التي نشأوا فيها و فيها تشكلت طبائعهم و شخصياتهم.و بدأوا يساهمون في نقد و تقويم و بناء مسار التطور الاجتماعي و الثقافي في هذه البلدان، و أصبح الآخر فيهم هو "هم" أي أصبحوا بشكل من الأشكال" هويات مندمجة"(8) و ليسوا أفراداً ذابت هوياتهم و تلاشت.
و يعني ذلك أنهم على الأقل جغرافيا أصبحوا جزءا لا يتجزأ من هذا الآخر الذي يعتبره المسلمون في العالم الإسلامي آخرا مغايرا بل مقابلا لهم تماما. أما بالنسبة للخطاب الإسلامي في الغرب فالآخر أصبح مفهوما ضبابيا و مستعصيا على التحديد.
و نستطيع أن نجازف بالقول إن هذا الخطاب بصدد الاسترفاد من الأبعاد المعرفية لشروطه الجغرافية هذه، فهو في موقع يكسبه اتزانا في رؤيته الثقافية لكثير من القضايا التي تهم العلاقة بين عالم الإسلام و عالم الغرب بل و لكثير من القضايا التي تتعلق بالهوية الذاتية للغرب و الهوية الذاتية للمسلمين في العالم.
إن تشكل هذا الفكر في سياقات ثقافية مختلفة و نشوءه في مناخ اجتماعي و حضاري إشكالي من شأنه أن يكثف عوامل التوتر المعرفي داخله و من شأنه أن يدفع به إلى الارتماء في عمق المآزق المعرفية و الفلسفية و المنهجية التي تؤرق الفكر الإسلامي عامة. و إذا كان الغرب، ثقافيا، يعتبر ساحة منفتحة و مشرعة تجاه كل الأسئلة المعرفية و الفلسفية بدون مواربة و لا ممنوعات(9) فإن الفكر الإسلامي في الغرب لا شك سيمتاح من هذه الورشات المعرفية المشرعة و لا شك أنه في موقع تاريخي و حضاري استراتيجي يخول له عمق الرؤية و اتساعها.
الهوامش:
(1) ابن منظور:لسان العرب ، المكتبة العلمية
(2)Philipe Sénac : L'image de l'autre(Histoire de l'Occident Médiéval face à
l'Islam), Flammarion-France 1983 P.8
(3) سورة هود الآية 18
(4)رضوان السيد: سياسات الإسلام المعاصر، دار الكتاب العربي ص 157
(5)ابن تيمية :جامع الرسائل ط الأولى ص 163-164 ذكره عبدالمجيد الصغير :تجليات الفكر المغربي : دراسات و مراجعات نقدية في تاريخ الفلسفة و التصوف بالمغرب ، المدارس ص 74
(6)Integration et Assimilation
(7)Jocelyne Cesari : L'islamisation de l'espace public français, CEMOTI p23
(8)Islam minoritaire islam majoritaire entretien avec Tareq Ramadan Revue Confluence N°32 2000
(9)طبعا هذا لا ينفي كون الثقافة الغربية أخذت تنتج بدورها ممنوعات كثيرة في طريقها إلى أن تصبح مقدسات لا تمس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.