عرف العالم مع مطلع التسعينات نهاية الاتحاد السوفياتي وتفكك منظومة الدول الشيوعية وظهرت مفاهيم جديدة متصلة بالديمقراطية حاولت تفسير مجمل التحولات السياسية التي شهدها العالم آنذاك ولا سيما التحاق عديد الدول بأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية بمنظومة الدول الديمقراطية الغربية وبرز إلى الوجود مفهوم التحول/الانتقال الديمقراطي والذي ارتقى مع الأيام إلى براديغم/ أنموذج نظري يؤطر تلك التحولات ويفسرها. ويتكون هذا البراديغم من ثلاث مراحل كبرى: أ- مرحلة الانفتاح: وهي مرحلة اختمار الديمقراطية بما يطلق من حريات ويسمح به من توسيع مجالاتها المختلفة في الصحافة والأحزاب والرأي كخطوة أولى "نحو تفكيك النظام السلطوي وتوفير الشروط الملائمة للانخراط في إصلاحات عميقة في مرحلة الاختراق". ب- مرحلة الاختراق: تتميز ب "ظهور نظام جديد ديمقراطي تمارس فيه السلطة حكومة منبثقة عن انتخابات نزيهة وشفافة تستغل في إطار بنى مؤسساتية يتم إرساؤها عادة عبر إصدار دستور جديد". ت- مرحلة التدعيم أو الترسيخ: وهي "عبارة عن مسار بطيء لكنه هادف يتم من خلاله التحول من الديمقراطية في بعدها الشكلي إلى جوهر الممارسة الديمقراطية". وبالنظر إلى هذه المحددات النظرية لمفهوم التحول الديمقراطي فإنه من البديهي الإشارة إلى أن التحول الديمقراطي والديمقراطية متأثران بأنماط المجتمعات وخصوصياتها وحجم التحديات المطروحة ونمط الفاعلين الاجتماعيين لذلك فإن مثل هذا البراديغم نسبي لا مطلق بيد أنه لا إنكار لجوهر هذا المفهوم ألا وهو الانتقال من النظام السلطوي أو التعددية الشكلية إلى بناء قواعد المشاركة وترسيخها في الذهنيات والنصوص والتقاليد. ويحتاج هذا البناء إلى التزام معلن وتطابق بين القول والفعل وإلى وقت ضروري يمكن أن يكون قصير المدى إذا اقترنت نوايا السلطات الحاكمة بالممارسة والتوجهات السياسية بالتطبيق الملزم للجميع على أرض الواقع. وتضطلع المعارضة والنخب المثقفة بدور أساسي في تحقيق هذا التحول وتدعيمه وتطويره إلى أن يبلغ مداه ألا وهو تحقيق الديمقراطية عامة والديمقراطية الراسخة خاصة. فما الديمقراطية الراسخة؟ لا شك في أن نموذج هذه الديمقراطية مجسد في الديمقراطيات الغربية عامة والأوروبية خاصة والتي بنت مؤسساتها الديمقراطية من مجالس بلدية تعددية وبرلمانات وصحافة رأي ومؤسسات دستورية وإدارة محايدة وقوانين ثابتة وحقوق محفوظة وواجبات معينة واضحة واستحقاقات مضبوطة ومتفق عليها لا تخضع للأهواء ولا للمحسوبية ولا للرشوة ولا لأي تلاعب... إنها مرحلة نضج المجتمع التام بحصر الصراع الديمقراطي في التنافس حول أفضل السبل لإدارة الشأن العام وأنجع السبل في ترقية المجتمع وأقوم المسالك إلى التقدم الحضاري. إن الأمل معقود على مدى وعينا جميعا سلطة حاكمة وأحزابا ومكونات مجتمع مدني ونخبا بخطورة هذه المرحلة ومدى انخراط كل طرف في هذه المعادلة انخراطا جديا...