** كرة القدم 2006 لا تخلو من السياسة رغم كثيرة المحاولات والجهود، وتألّق فعلي ومصطنع، ومشاركة السيارات والهجن والدرّاجات، ودوائر الأولمبياد الشهيرة، وأصحاب الأموال النفطية وغير النفطية، لم تستطع رياضة أخرى أن تنتزع قصب السبق الجماهيري من البطولات الكروية على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية. وتتوارى كل الأرقام القياسية من أعنف المشاهد في الملاكمة والمصارعة، وحتى عند استعراض جمال الأجساد، مع تألق كرة تتلاعب بها الأقدام، وتستقطب العدد الأكبر من المشاهدين، وتتحقّق من خلالها صفقات من كافة الجوانب. وما بين الرءوس والأقدام.. عندما نستمع إلى الكلمات الدقيقة الصياغة في المهرجانات الافتتاحية الكبرى للبطولات العالمية، لا بد من التساؤل: ألا تزال كرة القدم تحتفظ حقّا -كما يقولون- بعذريّتها السياسية ونقائها الأخلاقي؟. ليس السؤال المطروح في العنوان استفزازيا، ولا يجرؤ أو يريد إطلاقا دعوة فردية إلى "مقاطعة" شعبية للكرة ومبارياتها. لهذا يستبق كاتب السطور التالية بتأكيد براءة الكرة والشبيبة من الألاعيب السياسية، وما أكثرها، ولا يسري هذا الوصف على سائر ما يربط بين الكرة والسياسة. قد يكتشف بعضنا أنّ لكرة القدم مكانة "سياسية" أبعد ممّا يدور في خلده، عندما يصادفه عنوان غريب في كتب التاريخ، هو "حرب كرة القدم". وقبل أن يبتعد بنا الخيال عن الواقع، فالتسمية حقيقية لا مجازية. الحرب التي دخلت التاريخ بهذا الاسم انطلقت بين هندوراس والسلفادور يوم 14-7-1969م، من ساحة ملعب شهد مباراة بين البلدين للتأهل للبطولة العالمية آنذاك، وانتهت -أي المباراة- بصدامات بين المشاهدين، سقط فيها قتلى وجرحى، وتلاها نشوب الحرب بين البلدين، وقد استمرّت أربعة أيام فقط، فهي أقصر الحروب في التاريخ كما يقال. والواقع أنّ الصدامات في الملعب يومذاك، وأخرى سبقتها، لم تكن سوى الشرارة التي أشعلت الحرب، فالسبب الحقيقي هو خلاف سياسي على "هجرة غير قانونية" بين البلدين. ذكرُ "كرة القدم" في تسمية الحرب لم يمنع أنّ إنهاءها كان بتدخّل المنظمة الإقليمية للدول الأمريكية، وليس عن طريق الاتحاد العالمي لكرة القدم (FIFA) وليس هذا تهوينا من شأنه وقيمته السياسية، فيكفي التنويه أنّه بات يضمّ في هذه الأثناء أكثر من 200 دولة عضوة، بينما لم يصل عدد أعضاء الأممالمتحدة إلى 200 دولة عضوة حتى الآن، كما أنّه أقدر من الأممالمتحدة في الجمع بين الخصوم، إن لم يكن على مائدة طعام، فعلى "ساحة خضراء" واحدة، كما كان في تلك المباراة التي جرت قبل بطولة 2006م ما بين الفريقين الأمريكي والإيراني، واللّعِب أبعدُ شأنا في الرمز إلى حسن العلاقات بين طرفين عادة، من مفاوضات أو مآدب طعام دبلوماسية، وقد انتهت المباراة بفوزٍ إيراني بهدف مقابل لا شيء، ممّا يذكّر بالحصيلة الراهنة للسجال "النووي" الدائر بين الجانبين، وإن لم تنته "المباراة" الجارية حوله بعد، ومع استبعاد أن توصل إلى حرب، ولو من قبيل "حرب كرة القدم" بين هندوراس والسلفادور. "نحن نخوض مباراة ولا نخوض حربا".. ليست هذه عبارة صادرة عن أحد من الفريقين الأمريكي والإيراني، بل صدرت -بعد 37 عاما من حرب هندوراس والسلفادور- عن أولي هونيس، مدير أعمال فريق بافاريا الألماني، عندما انصبّت الانتقادات الإعلامية والسياسية على الفريق، بسبب مباراته الودية مع الفريق الإيراني قبيل بطولة 2006م. صحيح أنّ الفريق حصل على 300 ألف يورو مقابل رحلة كروية استغرقت 12 ساعة، وأنّ الجميع من الناقدين وغير الناقدين يقولون "لا علاقة للسياسة بالرياضة"، ولكن من المغري إعلاميا إثارة ضجّة حول المباراة، وهي ذات خلفيّة سياسية، ترتبط بالموقف من الملفّ النووي -وليس الكروي- للدولة الإيرانية. ولم يعد أحد ينتظر أن يتجاوز أصحاب القرار في الاتحاد العالمي لكرة القدم مصالحهم، وقد أصبحوا "قوّة دولية" لا يقلّ شأنها وتأثيرها عالميا عن كثير من المنظمات والتحالفات الاقتصادية والمالية العالمية الأخرى، فيقدموا على إلغاء مشاركة إيران في البطولة مثلا، وهذا ما تدركه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عندما تصرّح قبيل حلول موعد افتتاح البطولة، بأنّها لا تدعم الدعوات المتردّدة بهذا الصدد. مقابل الحكايات الإعلامية عن مطامح إيران النووية وسط ضجيج البطولة الكروية، نجد أنّ ألمانيا تشهد الآن حملة تطالب السلطات الرياضية الألمانية بوضع ما يشبه الميثاق، تحت عنوان قيم أخلاقية، يجري تطبيقها على المباريات الدولية، أي من حيث المشاركة فيها أو عدم المشاركة، أو من حيث رفع لافتات تنتقد دولة الفريق اللاعب في مباراة ما، وما شابه ذلك.. ولكنّ العنوان لا يُفهم على إطلاقه، ولا وفق المعنى اللغوي للكلمة، بل يُفهم عند وضعه أمام خلفيّة سياسية للدعاة إليه؛ فهم يربطون بين مباريات 2006م والبطولة العالمية في الأرجنتين 1978م، في أثناء الحكم العسكري هناك، فقبيل سقوطه اختفى -أو أُخفي- زهاء 100 شخص من ذوي الأصل الألماني من الأرجنتينيين، يصفهم المدافعون عنهم حاليا بأنّهم كانوا يعارضون الاستبداد العسكري، والقوانينُ الأرجنتينية تثبّت عدم الملاحقة القانونية بموجب اتهامات من تلك الفترة، ولكنّ أصحاب تلك الحملة لا يريدون التسليم بذلك. ليس هذا إلاّ مثالا عابرا على وجود جهات عديدة لا تريد أن تكون السياسة خارج الكرة تماما، ويسري هذا على حقوق الإنسان ومواقف منظمات دولية مثل منظمة العفو الدولية، وقد رفعت قبل سنوات شعار "نعم لكرة القدم.. لا للتعذيب"، ولكن رفض المسئولون في الاتحاد العالمي، كما رفض أعضاء المجلس النيابي الألماني أن يسري المقصود بهذا الشعار على التعامل الرسمي مع الفرق الرياضية. الواقع أنّه يستحيل تصوّر الأخذ بذلك الشعار ومحاولة رؤية الكرة والمباريات عبر منظور انتهاكات حقوق الإنسان، وإن كان هذا في الماضي محتملا فقد بات الآن على وجه التخصيص أبعد ما يكون عن الواقع، وإلاّ لوجب تطبيقه على عدد كبير من الدول الغربيّة، فينقلب السحر على الساحر، فحملات منظمات المجتمع المدني -ومعظمها غربيّة- على بلدان كالأرجنتين أو الصين سابقا ولاحقا، لم يعد يمكنها أن تستثني -ولا تستثني حاليا- ما ربط كلمةَ التعذيب ربطا وثيقا في هذه الأثناء بأسماء لا تصمد أمام شهرتِها أسماءُ كثيرٍ من مشاهير الكرة، فمن ذا يجهل ما تعنيه ومَن تعنيه حروفُ كلمة جوانتانامو أو أبو غريب، حرفا حرفا؟. لا شكّ أن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي لم يسبق للاعبي "الهجوم" في فريقها الكروي أن سدّدوا أهدافا يجعلها تحوز على كأس البطولة العالمية، قد ضمنت لنفسها امتلاك كأس البطولة في التعذيب بلا منافس عبر إنجازات لاعبي "الدفاع" في فريقها الوزاري، العسكري والسياسي. هل يمكن أن يسري هنا ما استهدفته منظمة العفو الدولية عبر شعار "نعم للكرة.. لا للتعذيب"؟ من يريد أن يكون للرياضة "ميثاق شرف" أو ميثاق قيم من قبيل ما سبقت الإشارة إليه، وجب عليه إذن أن يبدأ بإبقاء الازدواجية المنتشرة والمستفحلة في الممارسات السياسية عالميا على رأس بنود الميثاق؛ لتتضح قواعد التعامل مع الرياضة بمنظور سياسي أو منظور حقوق الإنسان، وإلاّ فعلام تثور الحملات الإعلامية في البلد المضيف لبطولة 2006م بصدد دولة كإيران وملفّها النووي، فتنتقد لعبة وديّة مع فريقها الرياضي، أو كلمة تُلقى على جماهير الرياضة فيها، أو زيارة الرئيس الإيراني لمشاهدة مباراة الفريق في البطولة، ولكن لا تثور حملات مشابهة تستحقّ الذكر بصدد دولة أخرى، كالولاياتالمتحدةالأمريكية أو بريطانيا؟!. يستحيل في الأصل الفصل المطلق بين السياسة والرياضة، فكلّ حدث كبير ينطوي على تأثير سياسي كبير، سواء على مستوى صناعة الرأي العام، أو تعبئة الشبيبة، أو في ميادين أخرى ترتبط بمكانة الدولة المعنية في مسرح السياسة الدولية، ولكنّ استحالة الفصل المطلق لا تسوّغ -لولا افتقاد أرضية منظومة القيم والأخلاق ومبادئ الشرعية الدولية- ازدواجيّة التعامل ما بين دولة وأخرى، سواء على ألسنة السياسيين أو بأقلام الإعلاميين. وعندما يصدر تصريح رسمي عن المستشارة الألمانية ميركل، بأنّها لا تدعم استثناء إيران من البطولة، فقد يؤخذ من التصريح لأوّل وهلة التمسّك بمبدأ الفصل، ولكنّ قليلاً من التمعّن فيه وفي عدم صدور تصريح مماثل بشأن الدولة الأمريكية أو البريطانية مثلا، يكشف عن أنّ الحصيلة هي القول: إيران تستحقّ الفصل، ولكن لا نفعل، فهو تصريح من باب تثبيت التهمة والعفو (!) الاضطراري من العقوبة فحسب، أمّا الدولتان المحتلّتان للعراق فلا يوجد (!) أصلا ما يستدعي الدعوة إلى فصلهما عن البطولة أو معارضته!. ألمانيا المضيفة.. بأي تاريخ كروي سياسي؟ للتداخل بين السياسة والرياضة أكثر من وجه، فقد يقتصر الأمر على التأثير الواقعي المتبادل بين ميدانين من ميادين الحياة البشرية فحسب، أو يصل إلى درجة التأثير الموجّه لتحقيق مصالح ذاتية لمن يمارس التأثير، أي لأصحاب المصالح المادية تحت عنوان رياضي، أو المادية تحت عنوان سياسي. التأثير الطبيعي المتبادل هو المقصود عندما نقرأ في مقدّمة كتيّب أصدرته الهيئة شبه الرسمية "المركز الاتحادي للتوعية السياسية" تحت عنوان "السياسة والرياضة"، والمقدّم للوزارة الألمانية الاتحادية لشئون الثقافة والشبيبة والرياضة، فطبيعي أن يتناول الجانب السياسي-الاجتماعي لرياضة كرة القدم وليس الجانب الرياضي، إنّ الانبهار بكرة القدم يجعل المرء عندما يشتغل بكرة القدم تظهر له قضايا سياسية واجتماعية. بالمقابل، كان وزير الداخلية الألماني السابق أوتو شيلي يتحدّث عام 2004م عن استضافة ألمانيا لبطولة 2006م، فكان من أقواله: "إنّ على ألمانيا أن تنتهز هذه المناسبة لتظهر كبلد حديث منفتح على العالم". وسرعان ما قامت المعارضة من المسيحيين الديمقراطيين آنذاك بالاحتجاج عليه؛ لأنّه يوظّف الحدث الرياضي الكبير لأغراض الدعاية الانتخابية، وهنا يظهر عنصر لعبة المصالح السياسية المحضة عند الإشارة إلى أنّ المسيحيين الديمقراطيين أصبحوا في الحكومة الائتلافية في هذه الأثناء، ولا يكاد يتردّد أحد منهم عن الإدلاء بتصريحات مشابهة، ولا عن تنفيذ الخطوات العملية التي وضعها أوتو شيلي آنذاك لتحقيق الهدف الذي أعلنه من قبل. لم ينفصل العنصر السياسي عن العنصر الرياضي في أيّ وقت من الأوقات في تاريخ ألمانيا الكروي، وكانت البداية بالحصول على البطولة العالمية في سويسرا عام 1954م، بالتزامن مع توقيع دول الحلفاء الغربية على معاهدة فتحت الأبواب أمام قيام ألمانياالغربية ومع قرار الاتحاد السوفييتي آنذاك بخطوة مماثلة تجاه ألمانياالشرقية، فكانت تلك البطولة حدثا سياسيا تاريخيا من العيار الأول، ليستعيد شعب ألمانيا -في الجزء الغربي على الأقلّ- الثقة بالنفس عبر كأس البطولة الكروية بعد دمار الحرب العالمية الثانية، بل اعتبر يوم البطولة هو يوم ميلاد "جمهورية ألمانيا الاتحادية" الواقعي. وكان من أبرز المحطات التالية مباراة على البطولة الأوربية بين فريقين من الدولتين الألمانيتين عام 1974م، في خضمّ المرحلة الانتقالية من الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي إلى حقبة الانفراج. فبعد أسابيع معدودة من استقالة المستشار الألماني الأسبق فيلي براندت عقب اكتشاف وجود جاسوس ألماني شرقي في مكتب المستشارية، جرت المباراة وأصرّ فريق بافاريا الألماني الغربي على أن يصطحب في رحلته إلى مدينة ماجديبورج في شرق ألمانيا حافلةً مجهّزة بمطعم متنقل، مع التصريح بأنّه لا يأمن على نفسه من تجسّس المخابرات الألمانية الشرقية عليه إذا لجأ إلى المطاعم هناك، فتحوّلت المباراة الكروية إلى ما يشبه جولة سياسية حربية بين الجانبين، وكانت حصيلتها آنذاك انتصار "الشرق" بهدف مقابل لا شيء. ومرّة أخرى تزامن الحدث الرياضي مع السياسي عند إعادة توحيد ألمانيا عام 1990م في أجواء سياسية نشرت الإحساس بانتصار المعسكر الغربي على المعسكر الشرقي؛ إذ حصلت ألمانيا على البطولة العالمية، فسارع الرياضي الشهير فيها فرانس بيكنباور إلى التصريح بأنّ الفريق الوطني الألماني "الموحّد" سيحقّق لألمانيا الموحّدة الانتصارات عالميا لسنوات عديدة قادمة؛ وهو ما اعتبر أقرب إلى الانسياق وراء مشاعر قوميّة طالما حرص الألمان على كبتها أو التخفيف من تأثيرها المحتمل في تعزيز المخاوف في الدول المجاورة، ولكن أفاقت ألمانيا من حلم بيكنباور الرياضي على كابوس الهزيمة المبكّرة أمام الدانمارك عام 1992م في البطولة الأوربية. وبدأ آنذاك الانحدار السريع لكرة القدم الألمانية، دون أمل حقيقي للخروج منه حتى اليوم، فكان أشبه بالركود الاقتصادي الطويل الذي بدأت الآن بوادر الانتعاش منه، وكأنّها ترافق بوادر تجدّد الأمل في كأس بطولة 2006م على الأرض الألمانية. ولا ينفصل عام 2006م الحدث الرياضي الكبير عن الأجواء السياسية الدولية التي تجعل ألمانيا قادرة على التحرّك على المسرح العالمي في مثل قضية الملفّ النووي الإيراني، مع الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وهي تتطلّع إلى مثل تلك العضوية، ولا نفتقد انتشار الاعتقاد تلميحا وتصريحا بأنّ الحصول على البطولة الكروية يساهم في الحصول على ما يشبه "البطولة السياسية" عالميا أيضا، جنبا إلى جنب مع الانتعاش الاقتصادي. وإذا كان معظم ما سبق مرتبطا بالمشاعر والأحاسيس فليس الربط بين انتعاش اقتصادي والبطولة العالمية في ألمانيا من قبيل التمنيات والأحلام، بل هو أحد العناصر الرئيسية في الحسابات والأرقام التي يتضمّنها التخطيط والتنفيذ للمباريات. وما صراع المدن الألمانية على استضافة المباريات الكبرى لا سيّما الافتتاحية والختامية إلاّ صراعا على العائدات المالية الضخمة التي تتوقعها من تلك "الاستضافة"، مثل ذلك مثل الصراع بين المحطات التلفازية على حقوق البث. ولهذا لم يكن عسيرا رغم كل حديث عن ضائقة مالية تستدعي المزيد من إجراءات التقشف الحكومي والضغوط على صعيد الضمانات الاجتماعية، أن تبلغ النفقات المالية على تجديد بضعة عشر ملعبا كرويا، وإنشاء بعضها حديثا، أكثر من مليار و300 مليون يورو. ولا يوجد من يحتجّ على ذلك كالاحتجاج على نفقات أخرى أقلّ من ذلك بكثير، فكرة القدم هي الرياضة الشعبية الأولى في بلد يضمّ أكثر من 170 ألف فريق في أكثر من 25 ألف رابطة رياضية، يجمعها الاتحاد الألماني لكرة القدم، فيجمع من خلالها أكثر من 6 ملايين و300 ألف عضو؛ أي أكثر من ضعف ما تجمعه سائر الأحزاب السياسية الألمانية مجتمعة. -------------------------------------------------------------------------------- ** كاتب سوري مقيم في ألمانيا.