*صحفي مصري مع بداية العام الجديد أعرب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عن عزمه على اتخاذ عدة قرارات أثارت ردود فعل في الأوساط الحكومية الفرنسية والأوروبية. ولعل تصريحاته التي كشف فيها عن أن رئيسي وزراء كل من ايطاليا واسبانيا يرغبان في الانضمام لفرنسا في سياسة مشتركة لطرد المهاجرين غير الشرعيين من بلديهما، قد دفعت تصريحات ساركوزي حول المهاجرين وزير الداخلية الايطالي جليانو اماتو للإعلان عن انه لن تحدث عمليات ترحيل جماعي للمهاجرين من ايطاليا. ولم تقتصر تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة على خططه إزاء المهاجرين غير الشرعيين، وإنما شملت أيضا وسائل الأعلام الفرنسية الموجهة والناطقة باللغات الأخرى، حيث أعلن ساركوزي انه لا يريد قنوات تلفزيونية فرنسية ناطقة بلغات أجنبية كالعربية والإنجليزية. وأضاف: "التلفزيون الحكومي الفرنسي لا يمكن أن يتحدث إلا الفرنسية ومع شريط ترجمة باللغات العربية أو الإنجليزية". وترافق التصريحات الخاصة بإغلاق البث التلفزيوني باللغة العربية والانجليزية مع دعوات الرئيس الفرنسي لزملائه الأوروبيين بأتباع سياسات أكثر حزما تجاه المهاجرين، يعبر عن نزوع الحكومة الفرنسية لتوجهات قومية متشددة ترفض التعاون أو الاستفادة من الآخرين، وتطالبهم بالاندماج والذوبان في الوعاء القومي الفرنسي بدلا من التواصل والتمازج مع الثقافات والخبرات القومية الأخرى. وترفض تلك التوجهات مد يد العون والمساعدة لأبناء القوميات الأخرى معنويا- من خلال التواصل معهم عبر المشروع الإعلامي الثقافي،وماديا إلى أولئك الذين قدموا إلى فرنسا هربا من اضطهاد سياسي أو إنساني أو من ويلات حروب و نزاعات إقليمية. ومنذ أن كان وزيرا للداخلية قبل انتخابه رئيسا لفرنسا تبنى ساركوزي سياسة متشددة في التعامل مع المهاجرين، وخاصة الذين دخلوا البلاد بشكل غير شرعي. وعقب توليه منصب الرئاسة، أصدر تعليماته الى الشرطة الفرنسية بان تقوم بلا هوادة بطرد الأشخاص الذين يعدهم القضاء مقيمين بشكل غير شرعي في فرنسا. وفى الوقت الذي حرصت العديد من الدول الأوروبية على حل مشكلة الهجرة غير الشرعية حيث حصل أكثر من 700 ألف مهاجر غير شرعي على حق الإقامة في ايطاليا منذ عدة سنوات، وفى اسبانيا أيضا، جرت تعديلات على توجهات الحكومة الفرنسية تجاه التعامل مع المهاجرين. وبدأت فرنسا تلجأ إلى إجراءات متشددة تتمثل في طرد المهاجرين غير الشرعيين. ويقدر عدد من يطردون سنويا بحوالي 20 ألف مهاجر غير شرعي ما أثار منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان الفرنسية، باعتبار أن شعارات الستينيات "فرنسا أرض من لا أرض له" و"فرنسا أرض الخيرات"، يتم تجاهلها اليوم في ظل تناقص تعداد السكان وازدياد تعداد المسنين الذي يترافق مع تناقص القوى العاملة.وكانت أكاديمية مدينة تولوز قد أعدت دراسة بعنوان "الدور الاقتصادي والعسكري للمهاجرين في تاريخ فرنسا الحديث" أشارت فيها لدور المهاجرين في النهوض بالاقتصاد الفرنسي،وتشييد البنى التحتية لفرنسا. وقد يعتبر البعض أن ساركوزي محق في موقفه هذا لأنه يسعى لتحسين الظروف المعيشية لشعبه، بينما يرى البعض الأخر أن التواصل الحضاري والإنساني بين شعوب العالم وقومياته هو السبيل لتحقيق هذا الهدف. وبصرف النظر عن صحة أو خطأ مواقف ساركوزي الذي حقق انتصاره في انتخابات الرئاسة بالاعتماد على أصوات القوميين فان هذا الوضع والذي لا تنفرد فرنسا به يعكس توسع نفوذ الفكر القومي في المجتمعات الأوروبية، ولا أقول يقابله وإنما يشبه توسع نفوذ الفكر الديني في مجتمعات العالم الثالث.وكلاهما يعبر عن حالة من التشدد، ويختار المواجهة بدلا من الحوار والتواصل. ويعبر هذا التشدد غالبا عن عجز السلطة في استقطاب الناخب من خلال انجازات ملموسة، أو عبر تحقيق الأهداف المطروحة، ما يدفعها لاستغلال النزعات الرائجة (القومية أو الدينية) في إطار التأثير على الناخب بشكل انفعالي وعاطفي لا يمت للواقع المعيشي بصلة. أن مساعي ساركوزي لتقليص حجم الهجرة عبر أساليب قاسية وغريبة عن المفاهيم الفرنسية أثار منظمات حقوق الإنسان. وكان من الطبيعي أن تثير سياسات ساركوزي قطاعات هامة في المجتمع الفرنسي بسبب احتياج هذه المجتمعات للعمالة الوافدة من جهة، وبسبب التزام هذه المجتمعات بمنظومة المفاهيم الحضارية حول حقوق الإنسان والتي تشكل أساسا لها. وقد لا تجوز مناقشة الأمر من زاوية صواب أو خطأ مواقف ساركوزي، لأننا لسنا أوصياء على قناعات الآخرين، وإنما يجب التعامل مع ذلك وفق ما يريده أصحاب القرار والعمل على إيجاد لغة تفاهم مشتركة، هذا أذا كانت مواقف الآخرين لا تخضع لمنطق التشدد والمواجهة. أما إذا كان منطق الآخرين يستهدف مكاسب سياسية، أو يستند لرؤية متطرفة فلابد من إدراك حقيقة جوهرية، وهي أن الحوار والتواصل لا يمكن أن ينجح لأنهما يتطلبان قدرا من المرونة والاستعداد للتسوية التي تفسح المجال للتواصل والتعاون وتبادل الإفادة والخبرة. أما التشدد فلا يقود إلا إلى الصدام لأنه لا يراعي مصالح ورغبات الآخرين. لاشك أن إغلاق قناة "فرنسا 24" الناطقة بالعربية والتشدد مع المهاجرين قد يكون له مبرراته الوطنية والمالية التي تخص أصحاب القرار، لكن ما يخصنا فيه هو ألا تستهدف هذه الإجراءات المواجهة معنا أو إجبارنا على الذوبان في الثقافات والحضارات الأخرى لأننا لن نتجاوب معها.