يفوح عبق التاريخ فوق المتوسط. فمنذ أواخر أغسطس، انطلق أسطول غير مسبوق يحمل اسم «صمود» في محاولة للوصول إلى غزة وكسر الحصار المفروض عليها منذ عام 2007، ولو بشكل رمزي. أكثر من 50 قارباً قادماً من إسبانيا وإيطاليا واليونان وتونس، وعلى متنها وفود من 44 دولة تضم مئات المتطوعين، انخرطوا في هذا التحدي البحري. يشارك في هذا الأسطول أطباء، عاملون إنسانيون، فنانون، حقوقيون، نواب ومواطنون عاديون. ومن بين الشخصيات البارزة الحاضرة: الناشطة البيئية غريتا تونبرغ، الممثلة الفرنسية أديل هانيل، النائبة الأوروبية ريما حسن، والنائبة البرتغالية ماريانا مورتاغوا. الرسالة واضحة: لفت أنظار العالم إلى سكان غزة الذين يواجهون خطر المجاعة، والمطالبة بفتح ممر إنساني بحري. انطلاقة مليئة بالتحديات انطلق الأسطول من برشلونة أواخر أغسطس وسط هتافات آلاف المتضامنين، وتوقف بشكل رمزي في تونس. ففي مطلع سبتمبر، استقبل ميناء سيدي بوسعيد نحو عشرة مراكب شراعية، رحّب بها ألف شخص رافعين الأعلام الفلسطينية وشعارات الدعم. لكن مع حلول الليل، تعرض قاربان هما Family وAlma لأضرار مادية من دون تسجيل إصابات. سارع المنظمون إلى التنديد ب«عملية تخريب» تهدف إلى بث الخوف، مؤكدين: «سنصل إلى غزة مهما حدث»، فيما أعلنت السلطات التونسية فتح تحقيق. هذه الحوادث لم تضعف عزيمة المتطوعين، بل زادت من تصميمهم، خصوصاً مع الدعم الشعبي التونسي الكبير. الرحلة نحو غزة في 15 سبتمبر، أبحرت نحو 20 سفينة محملة بالمواد الغذائية والأدوية من موانئ قمرت وبنزرت وسيدي بوسعيد، لتلتحق بها لاحقاً قوارب انطلقت من إيطاليا واليونان. اليوم، يضم الأسطول ما يقارب 40 مركباً في رحلة تمتد 3 آلاف كيلومتر يُتوقع أن تستغرق أسبوعاً، وسط تكتم شديد لتفادي أي اعتراض مسبق. المتطوعون يدركون أنهم مهددون باعتراض بحري إسرائيلي، وكثير منهم أعلنوا استعدادهم لخوض إضراب عن الطعام فوراً إذا جرى توقيفهم. أما حمولتهم – أرز، حليب أطفال، أدوية – فهي متواضعة ولا تكفي لتغيير الوضع الإنساني، لكنها تعكس موقفاً رمزياً للتضامن و«لإيقاظ الضمائر». دعم دولي غير مسبوق المبادرة لاقت صدى دبلوماسياً نادراً. ففي 16 سبتمبر، أصدر وزراء خارجية 16 دولة – بينها تركيا، قطر، إيرلندا، إندونيسيا، جنوب أفريقيا، ماليزيا، إسبانيا والمكسيك – بياناً مشتركاً دعوا فيه إلى حماية الأسطول وطالبوا إسرائيل بضبط النفس. المنظمون اعتبروا هذا الدعم دليلاً على شرعية دولية للمبادرة، وبرهاناً على أن المجتمع المدني ليس وحده في هذه المعركة الرمزية. الموقف الإسرائيلي رغم ذلك، بقي الموقف الإسرائيلي متصلباً. فقد أعلنت قوات الاحتلال، المتهمة بارتكاب إبادة، أنها ستعترض أي سفينة تحاول الوصول إلى غزة من دون تصريح. وكانت محاولات سابقة في يونيو ويوليو قد انتهت باعتراض قوارب إنسانية وترحيل سريع للناشطين، بينهم غريتا تونبرغ وعدد من النواب الأوروبيين. الخطاب الرسمي الإسرائيلي يصف هذه الأساطيل بأنها «عروض دعائية» بلا تأثير فعلي. حتى إن وزارة الخارجية سخرت من أحد القوارب ولقبته ب«يخت السيلفي». كما نقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية اتهامات تزعم أن بعض المنظمين على صلة بحماس أو حزب الله. لكن الحكومة الإسرائيلية تتمسك بأن الحصار البحري «قانوني وضروري» لمنع وصول السلاح إلى غزة، فيما تتابع البحرية تحركات الأسطول عن قرب، استعداداً للتدخل عند اقترابهم من المنطقة المحاصرة. بين الأمل والمواجهة المرتقبة يسير أسطول «صمود» اليوم في منطقة يتقاطع فيها الإنساني مع السياسي والجيوستراتيجي. بالنسبة إلى المنظمين، الانتصار سيكون معنوياً بالدرجة الأولى: فرض قضية غزة على أجندة النقاش العالمي والتأكيد أن المجتمع المدني قادر على التحرك حيث تصمت الحكومات. أما إسرائيل فترى في الأمر مناسبة لتشديد قبضتها على الحصار وإحباط ما تعتبره عملية معادية. حالياً، يتجمع الأسطول في وسط البحر المتوسط، قبالة السواحل الإيطالية (بين بانتيليريا وصقلية)، متجهاً شرقاً. وتشير آخر البيانات إلى أنه يبعد نحو 1,000 ميل بحري (≈1,600 كم) عن غزة، بعد مغادرته تونس على دفعات منذ 15 سبتمبر. ويُقدَّر عدد السفن المشاركة بين 40 و50 بحسب تحديثات المنظمين، علماً أن بعضها يبحر «خارج التتبع» لدواعٍ أمنية، ما يفسر الفوارق بين الأرقام. خلال الأيام المقبلة، ستنتقل المعركة الرمزية إلى شرق المتوسط، حيث يتقاطع أمل المتضامنين مع تشدد الاحتلال، في مواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات. تعليقات