انتشرت صور الحرب في غزة في أنحاء العالم، لكن الكلمات التي تسبق الغارات وترافقها هي التي تُشكّل أحياناً التصورات وتُبرّر ما لا يمكن تبريره. فخطابات بنيامين نتنياهو ليست مجرد تصريحات نارية، بل تعبّر عن «نحوٍ سياسيٍّ قديم» يقوم على الثنائيات، والدعوات إلى «التحضّر»، واستعراض الخرائط — وهي أدوات تُسهم في إضفاء الشرعية على سياسات ميدانية مأساوية. في ما يلي قراءة تحليلية لهذه الآلة الخطابية. عرض بصري في خدمة خطابٍ تعبوي تكمن قوة بعض الخطابات المعاصرة في الصورة بقدر ما تكمن في الكلمة. فالمشاهد التي تُبث — أطفال مبتورون، مدنيون يلتقطون الحطام، لقطات مصوّرة بدقة جراحية — تخدم رواية واحدة: عدوّ منزوع الإنسانية، و«عملية نظيفة» تنفّذها دولة تملك «الحق». بالنسبة إلى نتنياهو، تأتي اللغة لتؤكد وتُؤطّر هذه الصور: فحين يقدّم إسرائيل بوصفها «سور الحضارة»، يحوّل الصراع العسكري إلى مواجهة أخلاقية وحضارية. هذا التحوّل الخطابي يؤدي دوراً مزدوجاً: تعبئة الداخل الإسرائيلي، والسعي إلى كسب — أو الحفاظ على — الدعم الدولي. من «العدوّ البربري» إلى تبرير القوة الأسلوب البلاغي تقليدي: تصوير «الآخر» منزوع الإنسانية، وسردية تهديد وجودي، واستدعاء الخوف باسم الدفاع عن القيم. يستمدّ نتنياهو مفرداته من هذا القاموس القديم: «النور في مواجهة الظلام»، «الحضارة ضد الهمجية» — ليُسمّي عدوه ويُعرّفه. هذه اللغة ليست بريئة: فهي تبرّر مسبقاً الإجراءات القسرية، وتُضعف أثر القانون الدولي الإنساني من خلال تقديم العنف على أنه «ضرورة» في مواجهة تهديد يُقدَّم بوصفه وجودياً. الجذور التاريخية للكلمات: «الإرهاب» و«الحضارة» استخدام الكلمات ليس تفصيلاً لغوياً. فمصطلح «الإرهاب» نفسه وُلد في أوروبا بعد الثورة الفرنسية، قبل أن يتعرض على مرّ القرون إلى تمييع وتوظيف سياسي من قبل النخب. وبالمثل، استُخدم مفهوم «الحضارة» في القرنين التاسع عشر والعشرين لتبرير التوسع الاستعماري وترسيخ التراتبية الثقافية. من خلال إعادة إحياء هذين المفهومين اليوم، يواصل نتنياهو ومؤيدوه تقليداً طويلاً من الخطابات التي تُجوهر «الآخر»، وتحوّل القوة إلى أداة «تطهير» أخلاقي. استراتيجيات معاصرة: الخرائط، الشبكات، و«التأثير» اللجوء إلى الخرائط والعروض المرئية وحملات التأثير ليس عملاً ثانوياً، بل جزء من هندسة شاملة للمعنى. فعرض الخرائط الجيوسياسية، مثلاً، يهدف إلى «تطبيع» نظامٍ إقليمي محدد وترتيب سلّم الحلفاء والأعداء. بالتوازي، يجري بناء شبكات تأثير تتولّى مواجهة ما يُسمّى «التضليل»، واستعادة السيطرة على السرديات المنتشرة عبر المنصات الرقمية. هذه الجهود تعبّر عن إدراك متزايد بأن شرعية الدولة تُبنى اليوم أيضاً عبر تدفقات الخوارزميات وموجات التواصل الاجتماعي. وتُسخّر لهذا الغرض مكاتب استشارات ووكالات متخصصة لإنتاج محتوى موجّه يستهدف الرأي العام، وخصوصاً الأجيال الشابة الحاضرة على الشبكات. تبعات إنسانية وقانونية: حين تسبق اللغة العقيدة على أرض الواقع، يمكن أن تسبق اللغة — بل أن تبرّر — عمليات عسكرية تُعرّض المدنيين لخطر جسيم. فمبادئ القانون الدولي الإنساني، مثل التمييز والاحتياط والتناسب، تُفسَّر في ظل هذه الخطابات بطريقة تضيق من نطاقها. وهكذا، يتجاوز أثر الخطاب الرمزية ليؤثر فعلياً في القرارات الاستراتيجية، وفي الطريقة التي تُقرأ بها القيود القانونية والأخلاقية. مقاومة سردية ورأي عام عالمي في مواجهة هذه اللغة، تظهر سرديات مضادة تتناقلها وسائل الإعلام العالمية والمنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية. توثيق الانتهاكات، وإبراز وجوه الضحايا، والطعن في الروايات الرسمية، كلها عناصر تعيد رسم موازين القوة الرمزية. لكن تفاعل الرأي العام يختلف من سياق إلى آخر: فبينما تبقى بعض الجماهير أسيرة الخطاب الأمني، تنحو جماهير أخرى نحو التشكيك، بل والمطالبة بإعادة النظر في التحالفات والسياسات. رهان ديمقراطي: المخاطر على النقاش العام استخدام لغة شمولية تقسّم العالم إلى «طيّبين» و«أشرار» يطمس النقاش الديمقراطي، ويقوّض قدرة المجتمعات على مساءلة قراراتها السياسية. فهو يفرض أُطراً تبسيطية وثنائية تُضعف التفكير النقدي وتعيق النقاش التعددي. إن تبرير العنف من خلال الخطاب يطرح سؤالاً جوهرياً: إلى أي حد يمكن تنظيم الكلام العام دون المساس بحرية التعبير، مع حماية الحقوق والكرامة الإنسانية في آنٍ واحد؟ ما بعد الكلمات: مسؤولية الفاعلين الكلمات تصنع الأثر. فالخطابات السياسية، حين تُرفَق بعروض بصرية واستراتيجيات تأثير، تُهيّئ الرأي العام لتقبّل قرارات تمسّ مصائر البشر. إن مساءلة هذا الاستخدام — عبر تتبّع جذوره التاريخية، وفهم آلياته، وقياس نتائجه — باتت ضرورة ديمقراطية وأخلاقية عاجلة. فإن كانت الأسلحة تمزّق الأجساد، فإن الكلمات تمزّق المخيّلات. وفهم هذه الآلية هو الخطوة الأولى لمواجهتها والتأكيد على أن حماية المدنيين وتطبيق القانون الدولي يجب أن يتقدّما على أي خطابٍ يُبرّر العنف أو يُحوّله إلى أمرٍ عادي. تعليقات