يشعر التونسيون ولأوّل مرّة بعد الثورة بالخوف و القلق، يشعرون بالحيرة أمام هذا الإنفلات الأمني وتفكك السلطة، وبكل بساطة هم خائفون على تونس. هم حائرون من تدهور الوضع الأمني وما يشكّله من خطورة، خاصة وأنّهم على علم بأنّ الحكومة لم تعد تؤدي مهمّتها الأساسية وهي حماية الأشخاص وممتلكاتهم، كما أنّهم يدركون أنّها لاتزال صامتة أمام عنف السلفيين والخارجين عن القانون، ومازالت تدعو قوّات الأمن إلى ضبط النفس، ومازالت تؤكّد أنّ الحل الوحيد هو الحوار مع من لا يعرفون معنى الحوار ولا يعترفون إلا بلغة العنف لطرح أفكارهم ولتغيير نمط عيش التّونسيين . ماذا حصل لكي تحترق تونس من شمالها إلى جنوبها في ليلة واحدة ولكي تقرّر الحكومة فرض حظر تجوّل ؟ التسلسل الزمني للكارثة: الحجة كانت معرضا للفن التشكيلي، حيث يأتي عدل منفذ في آخر يوم من العرض ليطلب نزع اللوحات غير اللائقة (حسب رأيه)، ثم يقوم بأخذ صور للوحات و يوزّعها على مساجد مسيطر عليها من قبل السّلفيّين، ثمّ يقوم بأخذها إلى منظّمات وجمعيات دينيّة (حسب أقواله)، وهنا سؤال يطرح نفسه لماذا أخذها لمنظّمات دينية وليس للشرطة أو القضاء؟ ثمّ يظهر وزير الشؤون الدينية في نشرة الأنباء ليلقي اللّوم على الفنانين التشكيليين، ويقول إنّهم قاموا بالاعتداء على المقدّسات الدينيّة وعلى مشاعر التّونسيين من خلال عرض لوحات مسيئة للإسلام، مع العلم أنّه لم يشاهدها، هذا الوزير كان عليه أولا أن يعمل على إرجاع المساجد لوظيفتها الأساسية وهي الصّلاة وليس الدعوة “الوهابية” للفتنة . ما الذي يجعل وزير شؤون الدينية يظهر في نشرة الأنباء ليبدي رأيه، دون حضور الجانب الآخر ليدافع عن نفسه ؟؟؟ يبدو أنّ اعتصام أنصار النهضة خارج مقر التلفزة التونسية كان مثمرا! في الليلة الفاصلة بين الاثنين والثلاثاء 12 جوان 2012، اشتعلت تونس ” بصورة عفويّة” من المرسى إلى جندوبة، من بنزرت إلى بنقردان وفي العديد من أحياء العاصمة حيث نزل بعض من المتساكنين إلى الشوارع مسلّحين بأسلحة بيضاء وبزجاجات حارقة للدفاع عن “الإسلام” ضدّ “الكفار”، وبالاعتداء على أعوان الأمن عبر إحراق مراكز الشرطة والمحاكم والكليات ومقرّات أحزاب المعارضة ومقرّات الإتّحاد العام التونسي للشغل. (فقط مقرات المعارضة واتّحاد الشغل) وكأنّه لا يحدث شيء بصورة عفوية أو بالصدفة في السياسة ! وأمام الضرر الكبير الذي لحق البلاد وغضب الشعب التونسي وردود الأفعال السلبية بالخارج، يخرج وزير الداخلية ليلقي اللوم على الفنّانين أيضا وعلى اليسار العلماني “بمعنى كافر” الذين حسب رأيه، إعتدوا على المشاعر الدينية للتّونسيين واستغلوا بقايا التجمّع وأعداء الثورة لاستفزاز الشباب السلفي. وبعدها بدأت آلة الدعاية التابعة للنّهضة في التحرك، في بادئ الأمر ظهر وزير حقوق الإنسان ووزير الشؤون الدينية ووزير الثقافة ليحمّلوا المسؤولية للفنّانين التشكيليين، ثمّ ظهر الغنوشي “رضي الله تعالى عنه” و دعا إلى التظاهر للدفاع عن المقدّسات، وأخيرا الرؤساء الثلاثة يصدرون بيانا يفسّرون فيه أنّ الأحداث التي جدّت هي بسبب السلوك اللامسؤول للفنّانين ولأعداء الثورة الذين لا يريدون للحكومة أن تنجح خاصة وأنّ وضع البلاد في تحسن، كما جاء بالبيان دعوة لوجوب الحوار بين جميع شرائح المجتمع التونسي، وهنا لا بد أن نتذكر أن اثنين من الرؤساء الثلاث هم من الأعضاء السابقين في رابطة حقوق الإنسان ( ولكن عبر التوزيع اللاّعادل للحقائب الوزاريّة باعتبار أنّ النهضة هيمنت على الوزارات السياديّة وواضح أنّها نسيت ذلك). فالسلفيون كجميع المواطنين لهم الحق في التظاهر ولكن ليس لهم الحق في استعمال العنف والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، ومحاولة الفرض على التونسيين نمط عيش غريبا عنهم. وعادة ما يعاقب على هذه الأفعال بشدة في دولة القانون!!! فالنهضة بالتغاضي عن هذه التجاوزات التي تهدّد ممتلكات الأشخاص ستدفعهم إلى التسلّح للدّفاع عن أنفسهم (مع العلم أنّه في بعض المناطق شرعوا في ذلك) وهذا ما قد يقود البلاد نحو حرب أهلية. من الذي فوّضهم للدّفاع عن الإسلام؟ لا أيّها السادة السلفيين والنهضاويين، الإيمان ليس حكرا عليكم، فكل التونسيين مسلمين وليس لديهم مشكلة هوية، لن تخرجوا في كل مرّة تجدون فيها أنفسكم في ورطة بنفس الإستراتيجية (نسمة، التونسية ، حادثة القرءان في بن قردان،العلامات على المساجد…) بغاية تحويل أنظار الشعب التونسي عن مشاكله الحقيقية، ومحاولين تقسيمه بدل جمعه. الأسباب الحقيقية وراء أعمال العنف : تواصل السلطات تنفيذ سياسة المكيالين، فمن ناحية، تسرع في سجن رئيس تحرير إحدى الصحف بسبب صورة اعتبرتها لاأخلاقية، وقامت بالاعتداء بلا رحمة على طالبي الشغل وجرحى الثورة الذين جاؤوا للمطالبة بحقوقهم وعلى المحتجّين الذي خرجوا يوم 09 أفريل 2012، للتّظاهر السلمي. ومن ناحية أخرى، تقوم بغضّ النّظر عن من قاموا بالاعتداء على عمداء الجامعات والأساتذة (جامعة منّوبة، القيروان…) ومن قاموا بالاعتداء على الصحفيين وعن مدنّس العلم الوطني، فهؤلاء لا يعاقبون. “هم أولادنا ويذكّرونني بشبابي” هذا ما قاله الغنّوشي، “إنّهم لم يأتوا من المريخ” حسب ما أكّد الجبالي عندما سئل عن سبب التساهل معهم. هذا التساهل وهذه السلبية، أعطيا أجنحة للسلفيين ويدفعهم لمزيد من الجرأة والوقاحة. الإفلات من العقاب التي يتمتّع بها السلفيّون هي سبب كل الأحداث التي عاشتها تونس في الآونة الأخيرة. في الواقع المسؤولون عن النهضة يواصلون تفضيل مصالح حزبهم على مصلحة الوطن والسلفيين هم حلفاؤهم أو ذراعهم اليمنى. من جهة أخرى، أصبح واضح للتّونسيين أنّ الحكومة كلّما اعترضها مشكل لا تجد له حلا، إلا وتقوم بخلق حجج واهية بدل العمل على تهدئة الوضع والبحث عن أسباب هذا المشكل وكل هذا لتحويل انتباه الناس عن مشلكلهم الحقيقية، فالنهضة وأتباعها يبحثون بكل السبل وتحت غطاء الشرعية الإنتخابية، على البقاء في السلطة رغم الإحتجاجات المتواصلة والإعتصامات والفوضى التي تعيشها العديد من المناطق في البلاد، فالوزراء يتصرّفون على أساس حزبي وليس حكومي وهم يعملون من أجل انجاح أهداف أحزابهم وليس أهداف الثورة التونسية، فهل نسيوا أنّ أداء القسم كان من أجل حماية تونس والعمل على مصلحها وليس من أجل مصلجة أحزابهم؟ الآن وبعد أعمال الشغب الأخيرة التي شغلت الناس والشارع التونسي، من سيتذكّر أو يتحدّث عن تدهور التصنيف السيادي لتونس من قبل “ستاندرد اند بورز”، من الذي سيعتقد أنّ الحكومة غير قادرة على السيطرة على الوضع، من سيطلب توضيحات حول الوضع الكارثي للإقتصاد، من سيتحدّث عن شهداء وجرحى الثورة، من سيراقب تقدم جلسلات التأسيسي حول صياغة الدستور الذي لازال منذ انتخابات 23 أكتوبر يقف عند مسودة التوطئة؟ من سيطالب باستقالة وزير التربية بعد تسريب إمتحانات الباكالوريا؟ من سيسأل عن التدابير المتّخذة للحد من حجم الأزمة الاقتصادية التي تؤثّر على جميع طبقات المجتمع، وعن ما تمّ تحقيقه من أجل التوازن الجهوي، وعن الترفيع في القدرة الشرائية للمواطن؟ من سيسأل عن خارطة طريق واضحة للانتقال الديمقراطي؟ أهداف الثورة التي من أجلها إستشهد وجرح العديد من الشبان والتي مكّنت النهضة من الوصول الحكم وإستأمنها الناس عليها، هي الحرية والكرامة وليس إقامة دولة إسلامية أو فرض نمط عيش معين على التونسيين، فتونس دولة إسلامية والإسلام محفوظ فيها البارحة واليوم وغدا ولا أحد مسلم فيها أكثر من الآخر. فتونس لا تملك ثروات بتروليّة أو موارد معدنية ، إنّها تحتاج لخلق الثروات وفرص العمل، وجلب السيّاح وجلب المستثمرين الأجانب إلّا أنّ هذه الأنشطة الثلاث تحتاج إلى الثقة، وهذه الثقة التي بنيناها على مدى سنوات فقدناها بسرعة. ولذلك على الحكومة الحاليّة أن تعمل من أجل مصلحة تونس عبر إسترجاع هذه الثقة بالرجوع إلى روح التوافق وبالتخلي عن الهيمنة وبالسلام في القلوب والعقول.