لم يكن من السهل في الماضي القريب إجراء حوار واضح في المجال الصحي حول الأساليب البديلة لتحسين أداء القطاع الصحي، ذلك أن اختلاف وجهات النظر فيما يتعلق بالأهداف المناسبة لمعايير الأداء وما يجب أن تكون عليه في المستشفيات خاصة باعتبار سيطرة القطاع العمومي على هذا المجال الإستراتيجي، وكذلك مدى مقدرة المواطن على اختيار النوعية المناسبة في التأمين والرعاية الصحية من الأسباب التي أخرت هذا الحوار، كما أن من الأسباب الرئيسية التي أحالت وجوده هو مدى إمكانية الفصل بين الطرق والأنظمة المصممة والجاهزة إن صح التعبير وبين الطرق الإستشرافية وعمليات التخطيط لتحقيق مجموعة قيم معينة تعمل بكفاءة أكبر. ومن هنا برزت في العقدين الأخيرين عملية التخطيط لتحسين الأداء، وظهرت بالتوازي نتيجة لذلك فئة من مؤيدي تنظيم القطاع الصحي ومرده عن هذه الفئة وعن أهل الاختصاص أن في زيادة الأنظمة الاجتماعية زيادة فرص الرضا عند الفرد لتلبية حاجاته في المداواة في القطاعين العام والخاص، وكذلك تماشيا مع ما أفرزه نمط العيش الجديد من طلب متزايد على الرعاية الصحية والتأمين على المرض. هناك أيضا أسباب ترتبط مباشرة بالمريض فهذا الأخير لا يعلم بنوعية العلاج الذي يتطلبه مرضه، فهو يفتقد المعلومات التي يختار على أساسها مسدي الخدمات الطبية، أو بالتالي لا يملك القدرة على تقييم مقدرة وكفاءة هذا الأخير، خاصة عندما يتعرض المريض إلى مضرة ما من مسدي الخدمات الطبية غير الأكفاء أثناء أو بعد التشخيص الطبي، ورغم أن الخطأ إنساني بطبعه إلا أنه في مرحلة ما يصبح غير مقبول إذا أمس بحياة الفرد، حيث يستحيل تصحيحه فيما بعد، ناهيك وأن النتائج بعد تشخيص المرض قد تكون إيجابية أو عكسية ؛ إلا أن الطبيب في هذه الحالة مطالب ببذل العناية الفائقة من أجل شفاء المريض ومراعاة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي يمر بها هذا الأخير. هناك مبرر آخر يتعلق بحجية مطلب تنظيم الرعاية الصحية والتأمين على المرض ذلك أن فئة كبيرة من المستهلكين يفضلون أن يحل النظام أو التنظيم محلهم لتقييم الوضع الصحي بصفة عامة والخدمات الطبية المسداة بصفة خاصة وبطبيعة الحال النظام الوطني للتأمين على المرض الذي يعتبر أحد أشكال هذا التنظيم إن لم نقل من أبرزه على الإطلاق ؛ وللإشارة هنا، ليس المقصد بالتقييم : التقييم الفني لأداء الطبيب، لكنه يقصد به عملية خلق منظومات صحية لاختيار الأنسب منها ومسارات هذه المنظومات وتفاعلها مع متطلبات العصر الجديد ورهاناته المتشعبة على كافة المستويات. من الأسباب الأخرى التي طرحت لتبرير زيادة الأنظمة في القطاع الاجتماعي والصحي، سبب أراه منطقيا وهو أن بدون تخطيط محوري لن يجد بعض شرائح المجتمع الرعاية الصحية اللازمة كما يمكن في غياب التخطيط أن يكون توزيع الخدمات الصحية غير عادل ؛ فمثلا نرى أن الاعتماد على المدن الكبرى ذات الكثافة السكانية الكبيرة والحركة التجارية الهامة لتخصيص الخدمات الطبية سيحرم سكان المناطق الريفية من الرعاية الصحية اللازمة بصفة عامة. ويرى آخرون من مؤيدي التنظيم الصحي أن تتولى الدولة تحديد الأسعار وتقييد الإنفاق بسقف معين كوسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية وهو مطلب الأغلبية لأن كلنا واعون بمدى تصالح المجتمعات مع الأنظمة ذات التوجه الاجتماعي في مثل هذه القطاع الحساس. أهداف التنظيم لسائل أن يسأل ما هي الأهداف المتوقع تحقيقها بمثل هذا التنظيم والتخطيط ؟ دعنا نتفق أولا أنه تختلف الزوايا التي ننظر منها وتعدد الآراء ولكنها تلتقي كلها عندما تصبح المسألة ذات بعد اجتماعي ،ذلك أن شعوبا كثيرة في عصرنا هذا استطاعت أن تحقق تقدما ملحوظا في المجالات العلمية والاقتصادية والتكنولوجية ولكنها عجزت إلى حد ما عن إيجاد الشخصية الآمنة السعيدة ذات الثقل الاجتماعي والإنساني. إن تزايد عدد المسنين في بلادنا نتيجة ازدياد معدل الحياة بالنسبة للفرد قد ارتفع وسيكون نتيجة هذا التطور طلب متزايد على عاملي الرعاية الصحية، وهنا يطرح السؤال نفسه، هل سيقوم مسدو الخدمات الصحية بأشكالها المتعددة بدورهم بشكل جيد إذا لم يكتسبوا ثقافة اجتماعية تضامنية من شأنها أن تجعلهم صبورين ومتفهمين ومتجاوبين مع طلبات هذه الفئة العمرية الحساسة؟ هل لا تشغلنا طبيعة العلاقة التي ستكون بين مسدي الخدمات الطبية والمريض المسن ؟ هل الأطراف الفاعلة في الخدمات الصحية عارفة بهذه الفترة الآتية لا محالة إن شاء الله؟ أليس التنظيم والتأمين على المرض مهندس هذه الرؤية المتبصرة؟ ألم يحن للبعض منا أن يحاول النظر ولو من زاوية واحدة إلى المستقبل القريب واستباق المتغيرات المتلاحقة؟ لماذا أصبح بعض االأفراد في المجتمع باختلاف مستوياتهم وثقافتهم يتسمون بقصر النظر؟ هل أن تعقد الظواهر الإجتماعية يعيق استيعاب المتغير المعلوماتي الذي يتطلب عدة معرفية وثقافية لمواجهة هذا العصر الجديد وتفكيكه وبالتالي فهم ما يترقبنا في الغد القريب؟ أليس مسدو الخدمات الصحية والطبية قادرين بأن يطوقوا ما تفرزه الحياة الإجتماعية بعجينة دواء أو بجرعات دواء منتظمة وتصاعدية حفاظا على صحة الخيارات الصحية الإستراتيجية؟ أليس هذا الدواء سوى فيض المعلومات والإطلاع قليلا على متطلبات العصر وفهم سيرورته لتحليل تشابكات المسائل الملتصقة بواقعنا وبمطالب عصرنا؟ أليس الاعتماد المبالغ فيه على السوق الحرة لتقديم خدمات طبية خاصة لن يسهل إذا أخذ طريقه حصول المعوزين وذوي الاحتياجات الخصوصية على الخدمات الطبية اللازمة والمناسبة؟ هل تستقيم المقارنة بين المنافسة الحرة في السوق لتقديم الخدمات الطبية وبين النظام الاجتماعي بما فيه التأمين على المرض كوسيلة لتحقيق أهداف متعددة؟ إني كمؤيد لتنظيم المنظومة الصحية الوطنية أقر علنا أن المقارنة هنا لا تستقيم لأنه ببساطة لا نستطيع هنا استبعاد القضايا المتعلقة بالعدالة والتوزيع وتكافؤ الفرص وعدم التهميش، كما لا نستطيع أيضا تناسي القضايا المتعلقة بالرفاهة وتشجيع الاختصاص والتمكن ...ومن هنا كان لابد من أساليب ومنظومة بديلة ذات المسار الأكثر عدالة وهو ما أتت به فلسفة منظومة التأمين على المرض. أسلوب النظام ونتائجه المحتملة لكي نفهم السلوك التنظيمي في القطاع الصحي والاجتماعي بصورة أفضل باعتبار تشابك القطاعين فمن المفيد أن ندير رؤوسنا قليلا إلى أداء الأنظمة في غير هذين القطاعين فتكتل الشركات الكبرى على سبيل المثال في القطاع التجاري التنافسي اتسمت بنوع من الاحتكار وعدم الموازنة بين ما هو ربحي وما هو غير ربحي، هذا التكتل مازال وسيظل حسب رأيي يمثل إزعاجا للمستهلك بصفة عامة، ذلك أن شعور الفرد بالضياع والتبعية والتهميش في بعض الأحيان وعدم الرضا والعجز على تحقيق الحاجات الذاتية من شأنه أن يولد بركانا من الفوضى يصعب إلجامها فيما بعد، هذا الفرد لا يستطيع أن يحكم على الخدمة أو السلعة المعروضة أمامه وهو بالتالي مطالب بالاستهلاك لا غير. وفي المقابل يفرض السلوك التنظيمي العمومي المصلحة العامة لحماية الصالح العام، إذا، فأنظمة المصلحة العامة قامت لكي تحمي المستهلك من الأسعار الاحتكارية من المنظور الاقتصادي للتنظيم ؛ فتنظيم قطاع السكك الحديدية وشركات توزيع المياه واستغلال الكهرباء نظيف إليها القطاعات ذات الطابع التنافسي كالنقل بالحافلات والخطوط الجوية وسيارات الأجرة... هذا التنظيم فرضه منطق الأنظمة ذات الطابع العمومي، وهذا ما جعل منشآت وشركات خاصة تود التعامل مع المنشآت المنظمة وخلق معاملات معها وبالتالي العمل تحت ظل المنافسة المنظمة ؛ وهو حسب رأيي من الأسباب الكثيرة التي جعلت المنظومة الصحية تعمل لخلق وتطوير نظرية بديلة للتنظيم والتأمين الجماعي بطلب من ذوي الاختصاص والعارفين والمشرعين وبتأييد سياسي. تأهيل وتنظيم المستشفيات: كما في القطاعات ذات الطابع العمومي وأخرى ذات الطابع التنافسي الحر فمن البديهي أن لا يكون تنظيم المستشفيات مختلفا عن تجارب القطاعات الأخرى المنظمة، إلا أننا نلاحظ أن الإنفاق على المستشفيات والدعم بأشكاله المختلفة مازال في ارتفاع ,وأظن أيضا أن هذه المؤسسات ستستمر في هذا النهج كتوجه تنافسي طبيعي مرتبط بالقطاع المقابل وهو القطاع الخاص. إن الابتكارات في مجال الخدمات الصحية المرتبطة خصيصا بالقطاع الخاص من شأنها أن تدفع المستشفيات إلى التأهيل لتكون أكثر كفاءة وأقل تكلفة مما يجعل طاقة المستشفيات ستفيض أكثر . من جهة أخرى يرضخ الاستثمار في المستشفيات العمومية إلى توزيع الإعتمادات المالية وإلى الكثافة السكانية، وبنك من المعلومات والبيانات والدراسات لأخذ القرار المناسب، إلا أني أريد الاستفسار عن هذا الباب، ومن منظور معلوماتي : هل لدينا ما يسمى بالتخطيط التطوعي في القطاع الصحي بصفة عامة يكون له الأثر المعنوي على استثمارات المستشفيات ؟ هذا التخطيط التطوعي يمكن أن يكون من مغامرات العقول ويمكن أيضا أن يكون في شكل مبادرة من منظمات المجتمع المدني... التي تعتبر شريكا فاعلا في عملية التنمية. إن الضغط على تكاليف التداوي والتسعيرات في القطاع العمومي وتأمين مظلة التغطية الصحية القاعدية عن طريق التأمين الجماعي يعتبر أحد مقومات النظام الجديد للتأمين على المرض ومن هنا كان لابد من المنظمين توسيع نطاق هذا النظام لوضع حد لمحدودية رؤية القطاع الخاص في وضع تكاليف العلاج الطبي عند حدها الأدنى ورفع بالتالي مستوى نوعية العلاج في كل المستشفيات. إن النظام الوطني للتأمين على المرض هو نظام كل الدافعين وغير الدافعين، أي كل شرائح المجتمع فلا تفرقة هنا بين فئة وأخرى ولا امتيازات لتغطية صحية لفئة دون أخرى. إن في تنظيم التأمين الجماعي والخاص على حد سواء من شأنه أن يعيد توزيع نفقات وتسعيرات الخدمات الطبية بأشكالها المختلفة وتحقيق أهداف متعددة تشمل الحد من زيادة الإنفاق، وزيادة كفاءة المستشفيات، ووضع تكاليف العلاج الطبي عند حدها الأدنى وتقليص العبء على المريض، ورفع مستوى العلاج في كل المستشفيات... وكذلك من شأنه أن يعطي في المستقبل الفرصة للاستثمار في مجال البحوث العلمية والدراسات الإستراتيجية والتي نحن بحاجة إليها لتأمين مستقبل صحي جيد.