للتعرف على قطاع الخدمات الطبية لابدّ من التعرف على مقدار الإنفاق على مكوّنات الخدمات الطبية الرئيسية المتغيرة ومن هنا نلاحظ أن خدمات المستشفيات وخدمات الأطباء تمثل الجزء الأهم من هذه الخدمات، كما أنّه لا يصحّ أن تكون نسب الانفاق على الخدمات الطبية والمستشفيات وغيرها من مسدي الخدمات ثابتة مع مرور عامل الزمن .وبالعين المجرّدة إزاء الإنفاق الدولي على إجمال الخدمات الطبية، يعزى أكبر جزء من زيادة المدفوعات برامج الرعاية والمساعدة الصحيّة، فنلاحظ انخفاض النسب التي تتقاضاها المستشفيات من المرضى، وهو السبب الرئيسي والبديهي لسرعة الإنفاق على المستشفيات. إن هذه الزيادة الحادّة والتغير في مكونات الإنفاق على الخدمات الطبية توحي بالحاجة إلى مجموعة من الأدوات الاقتصادية للتنبؤ بالحالات التي تخلق التوازنات المستقبلية، ولنفهم لماذا ازداد الإنفاق بهذه السرعة من الضروري تحديد الأسباب التي أدت أن تستمر أسعار وكميات الخدمات الطبية في التغير ومعرفة أسباب هذه التغيرات مهمة جدّا. الثابت أن الدولة من خلال هندسة المنظومة التونسية سواء في الصحّة أو التغطية الاجتماعية تفطنت لآثار هذه الأسعار وكمية الإنفاق في سوق الرعاية الطبية إن صحّ التعبير ومن هنا جاء تنظيم تدخل مختلف الأسواق الفرعية التي يتكون منها قطاع الصحة، هذه السوق التي يرضخ للعرض والطلب بناء على فهم أسواق الخدمات الطبية في بلدان مماثلة يتقارب فيها مستوى العيش، والدخل العام والموارد المالية والجوانب الثقافية والخصوصيات الحضارية....وغيرها ماذا سيوفر الوعي بالتأمين على المرض؟ نتيجة لزيادة انتشار الوعي بالتأمين الصحي بين المواطنين، يتوقع أن نشاهد زيادة في الطلب على الخدمات الطبية. وكنتيجة للزيادة في الطلب يتوقع زيادة في أسعار الخدمات الصحية، إذا هل يحق لنا أن نستنتج أن التأمين على المرض سيزيد من إقبال المواطنين على العناية بالصحّة وبالتالي سيرتفع دخل الأطباء؟ ومن هنا يطرح السؤال نفسه دون الخوض في التفاصيل هل قرأ الطبيب هذا الواقع؟... ناهيك وأننا نلمس اليوم في مجتمعنا الطلب الذي يتزايد يوما بعد يوم على المرافق العلاجية المختلفة الشيء الذي سيدفع هذه المؤسسات الاستشفائية والأطباء إلى الزيادة في مدخلات الإنتاج لزيادة عرضها وبالتالي مجابهة الطلبات المتزايدة، من ذلك أن مختلف التخصصات الصحيّة ستشهد ازديادا في الطلب على خدماتها، وستكتسب ثقافة التأمين الصحي عند كل شرائح المجتمع باعتبار شمولية التغطية الاجتماعية وعدالة توزيع التغطية الصحية وسيزداد معدّل الأجور والتوظيف في كلّ أسواق القوى العاملة في الصحّة بصفة عامّة، وبالتوازي سيزداد الطلب على التعليم والاختصاص من القوى العاملة باختلافها بغية الانضمام إلى المهن الصحيّة.. ومن هنا أصبح من المعقول أن نرى أن النظرة العامة لمنظومة التأمين على المرض هي المخرج الأمثل وربما يكاد يكون النهائي حسب رأيي لخارطة الطريق الصحية والتغطية الاجتماعية بصفة عامة. اختلاف أسعار الأطباء تاريخيا شهدت أسعار وتعريفة الأطباء للخدمة نفسها اختلافا كبيرا بين منطقة جغرافية وأخرى، فمثلا تفاوتت التعريفة الطبية في مدينتين متجاورتين في ولاية فلوريدا الأمريكية بين 41 دولار و53 دولار. وتراوحت رسوم الولادة الطبيعية بين 770د. و1400د. هذا الاختلاف في التعريفات بين المدن أكثر انتشارا مما في داخل المدينة الواحدة، حيث تقل تكلفة الانتقال للمستشفى، إضافة إلى تفاوت في الأجور ومستويات المعيشة بين منطقة وأخرى... يعتبر هذا الاختلاف في تعريفات الأطباء في سوق تنافسية بمثابة مقياس لانعدام المعلومات فإذا كانت لدى المرضى معلومات كاملة فسوف يذهبون للأطباء ذوي التعريفات الأقل، زيادة على أنه عندما توجد اختلافات في الأسعار في سوق ما سيكون من الأجدر للمريض أن يبحث عن أسعار أقل، كما تزداد تكلفة البحث عن طبيب بديل بازدياد دخل المريض ومن هنا يمكن اعتبار أن الفرق بين تعريفة الطبيب التي يدفعها المريض فعلا وأقل تعريفة التي يفرضها الطبيب على مرضاه وأعلى تعريفة في السوق هو مقياس لعدم معرفة الطبيب بالتعريفات في الأسعار لأنه يودّ أن يبيع خدمته بأعلى سعر ممكن، ومن هنا يتبين أن عدم معرفة المرضى للتعريفات أعلى مرتين من عدم معرفة الأطباء بها. كما اتضح أن درجة جهل المرض يختلف باختلاف الزيادة، فالأسعار تختلف كثيرا بالنسبة للخدمات التي لا يتكرّر شراؤها كثيرا وترتبط بشدّة المرض. كما تبيّن أيضا أنّ جهل المرض يزداد بالنسبة للأطباء الذين تعتمد خدماتهم الطبية على المرضى المحالين لهم من أطباء آخرين فمثل هذه الإحالات تعتبر بديلا عن بحث المريض عن طبيب مناسب. ولأنهم لا يكلفون أنفسهم عناء البحث عن التكلفة الأقل فإنهم يدفعون تعريفات وأسعارا أعلى. ضبط تعريفة خدمات الأطباء يعرض الطبيب على مرضاه خدماته ونصائحه، لذلك يفترض من أن تكون مصلحة الطبيب المالية كعارض للخدمة تؤدي إلى إعطاء المريض معلومات متحيّزة فهذا الأخير غير متأكد من احتياجاته الطبية ومن هنا فإن قلّة المنافسة في السوق نتيجة لانعدام المعلومات لدى المرضى أدّت إلى فكرة افتعال الأطباء للطلب عليهم ووضع الأسعار الخاصّة بهم. تاريخيا تغيرت تعريفات الأطباء المشاركين في برنامج المنظومات الصحية من فترة إلى أخرى، فزيادة عدد الأطباء وتنامي المنافسة أتاحا للكثير من الأطباء أن يختاروا كل شيء أو لا شيء وبالتالي تراهم يقرون أن من مصلحتهم الاقتصادية قبول كل شيء. لاشك أن أنموذج المنظومة الصحية والاجتماعية التونسية لها خاصيات، من ذلك أن في البلدان التي تعتمد مثل هذه المنظومات أو البرامج تختلف فيها معدل التعريفات، حسب الأقاليم وتخصصات الأطباء ،فنجد مثلا ولاية ذات كثافة سكانية كبيرة وحركة اقتصادية نشطة تعريفات أطبائها أعلى من مناطق سكانية أخرى، بينما اعتمدت تونس تنظيم التعريفات وعدالة توزيع الخدمات ضمانا لخدمات صحية تشمل كافة شرائح المجتمع دون أي إقصاء ،هذا التوجه الاجتماعي الذي بات من الثوابت في هذا البلد الصغير ذي الموارد الاقتصادية المحدودة . أعود لأقول لو فرضنا أن للطبيب مرضى يدفعون بطريقتهم الخاصة، ليس لديهم أي تأمين خاص وبالتالي فهم مرضى لا يستفيدون بخدمات منظومة التأمين على المرض، ولنفترض أيضا أن تعريفات الأطباء بالنسبة لمثل هؤلاء المرضى الخاصين هي الأعلى والأرفع بالمقارنة بالمرضى الذين تغطيهم خدمات منظومة التأمين على المرض، فلكي يرتفع دخله أكثر فسوف يخدم الطبيب المرضى الذين يدفعون التعريفات الأعلى قبل الآخرين، فالطبيب الذي يتعامل مع فئة خاصة من المرضى هو الذي يضع السعر المناسب دون أن ينظر إلى السعر المنظم وفق نصوص واتفاقيات، وفي هذه الحالة هناك العديد من العوامل المهمة التي تؤثر على معدل مشاركة الطبيب في البرنامج العام دون عدمه والتي يمكن أن تتفرّع إلى عوامل طلب وعوامل عرض وسياسات برنامج المنظومة الصحية والاجتماعية، فمثلا إن كانت هناك زيادة في الدخل أو التأمين الخاص، يزداد الطلب الخاص على خدمات الأطباء فيرتفع دخل الطبيب مما يعني أن الطبيب سيخدم المزيد من المرضى الخاصين وقليل من مرضى المنظوين تحت التغطية الاجتماعية أو أي ضمان اجتماعي، وسيحدث أيضا العكس إذا كان هناك انخفاض في الطلب الخاص . كما أن لسياسات منظومة التغطية الاجتماعية والصحية أثرها في ما يتعلق بتوزيع أو انصهار الأطباء مع المنظومة سالفة الذكر. إن الأطباء المتعاقدين والمشاركين في منظومة التأمين على المرض وفي صورة زيادة أعدادهم وتنامي المنافسة بينهم سيجعلهم يفسرون مشاركتهم في المنظومة بأنها تفترضها مصلحتهم الاقتصادية. الطبيب ومنظومة التأمين على المرض تشكلت نهائيا خارطة منظومة التأمين على المرض بعد أن استكمل انخراط الأطباء فيها وقد بُنيت العلاقة بين المنظومة والطبيب على اتفاقيات تعاقدية، وعلى سبيل المثال من بين ما جاءت به المنظومة أن يتعامل الطبيب المتعاقد الذي اختار الانضمام إليها مع مريضه بصيغة الطرف الدّافع، قبول 30% من إجمالي تكلفة علاجه، ويستكمل الطبيب بقية مصاريفه من الصندوق الوطني للتامين على المرض. أمّا في صورة رفض الطبيب لهذا التكليف، فهو بالتالي يحاسب مريضه بكلّ فاتورة علاجه وبأسعار قد تكون أعلى من الأسعار التي اتفق عليه في إطار التعاقد، هذا المريض الذي يدفع كلّ الرسوم المطلوبة مباشرة للطبيب تمّ عليه ملء وتقديم استمارة العلاج الخاصّة ومطالبة الصندوق بدفع ما عليه من كلفة العلاج. وما نلاحظه أنّ الطبيب المتعاقد يتعامل مع هذه الصيغة بطريقة غير واضحة أي أنّه قد يرفض تكليفا بمطالبة ما بينما يقبل أخرى مقدّمة من طرف ما؟ كما يتبين أيضا أن رفض الأطباء التعامل بصيغة الطرف الدافع التي أتت بها المنظومة قد يزيد في أعباء المريض وما أتت به منظومة التأمين على المرض وخاصّة بالنسبة لقليلي الدّخل من المسنين لأنّه يقيد حصولهم على رعاية صحيّة هم بحاجة ماسّة إليها. تشجيع الاختصاص في الطب ورسم خارطة التوزيع أدى عدم الكفاءة وعدم العدالة في مدفوعات المنظومات الصحية في كثير من البلدان ومنها أمريكا إلى اختلافات في دخول الأطباء وتعاقدهم وأثرت كذلك على اختيار التخصص ومواقع الممارسة الطبية، وهنا نفتح قوسا لنتأكد أن الإستراتيجية السياسية التونسية في هذا المجال وعت هذه المرحلة المتقدمة من خلال ما تطمح إليه من تحقيق الاستثمار في الموارد البشرية وزيادة طب الاختصاص أساسا وعدالة توزيعها على كافة تراب الجمهورية، ذلك أن نهج واضعي المنظومة التونسية نقطة أخرى إيجابية تضمن نجاح المنظومة وتفسر أيضا لماذا فشلت هذه المنظومات الاجتماعية في كثير من البلدان،وتكشف أيضا للمشككين في نجاحها عدم إلمامهم بمكوّنات المنظومات الاجتماعية والصحية والتجارب المتوخاة في بلدان أخرى، رغم أن المقارنة لا تصح بقدر كبير لا يسع المجال هنا لتعدادها ... قد نأتي عليها في مناسبات أخرى، هذه الرؤية الاستشرافية حسب رأيي خاصية يتميز بها الخبراء السياسيون ولكن لا نلمسها حقيقة عند الخبراء الاجتماعيين في أطروحاتهم أو تحاليلهم أو حتى كتاباتهم في مثل هذه المجالات الحيوية الهامة. من ذلك أنه لتصحيح عدم كفاءة وعدالة جداول الرسوم والتعريفات وقوائم الأدوية والعمليات وغيرها للمنظومة كان لا بد أن تكون الأسعار والتعريفات موحدة وأن تكون تعريفة الخدمة متناسبة مع تكلفتها. ذلك أنه عندما ترتفع تعريفات الأطباء في السوق الخاصة غير المرتبطة ببرنامج التغطية الاجتماعية الصحية سيخدم عددا قليلا فقط من المرضى. ماذا عن الإشهار وخدمات الطبيب؟ ستصبح سوق خدمات الأطباء تنافسية بقدر يزداد يوما بعد يوم ومن المحتمل أن تظهر ظاهرة الإعلان من قبل الأطباء :الإعلان عن الأسعار ومختلف الخدمات التي يسديها الطبيب، والحقيقة أني لا أعلم إن وجدت دراسات عمّا إذا كان الإعلان عن السعر يساعد على دخول في السوق أو يعرقله بطريقة أو أخرى. وربما أيضا يمكن أن تكون للإعلانات والإشهار آثار سلبية لأن الأطباء الأكثر رسوخا وشهرة في المهنة أقل احتمالا للإعلان عن أنفسهم وخدماتهم، أمّا إذا أعلنوا فسوف يكون للإعلان أثر سلبي على غيرهم، من ذلك أنهم سيحصلون على منافع الإعلان أكثر ممّا يتحصل عليها الأطباء الأقل رسوخا وشهرة في الطب. كما يمكن التكهن أنّ في السنوات القادمة سيجري المزيد من الدّراسات والبحوث بلا شك عما إذا كان الإعلان عن السعر ومختلف الخدمات والخبرات سيساعد على الدخول في سوق المستهلك أو يمنعه. لا شك أن أسلوب تقديم خدمات الأطباء يتغير مع مرور الزمن،والتعريفات تتغير أيضا ومنظومات التغطية الاجتماعية والصحية تتطور وهذا طبيعي وبديهي ولكن أن نحافظ على هذه المكتسبات ونعي قيمتها وآثارها على جيل المستقبل في إطار تضامني لا يتاح لكل المجتمعات فوق هذه البسيطة هو الأساس والمبتغى . فالتغطية الصحية والاجتماعية هي وعي وثقافة ومسؤولية وسلوك قبل أن تكون قوانين ونصوص تشريعية وترتيبية واتفاقيات وغيرها.