تقوم مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات بنشاط كبير. تتطرق لمختلف القضايا التاريخية والإجتماعية والسياسية والفكرية والفلسفية والدينية وغيرها التي تشغل بلادنا في أجواء تغلب عليها جرأة في الطرح ونزعا نحو حرية التعبير. لكن هناك مأخذ لابد من الوقوف عنده. فرغم الجهد الكبير الذي يبذله صاحب هذه المؤسسة الأستاذ عبد الجليل التميمي لفتح المجال أمام كل الطاقات والكفاءات التونسية في مختلف الإختصاصات المذكورة فإنه أحيانا قد لا تكون الأطراف التي تدعى للتدخل حول قضية ما مؤهلة بما فيه الكفاية للخوض في هذه القضية. الأمر يمكن ملاحظته مثلا بشأن ورشة العمل التي انعقدت يوم السبت حول الموضوع التالي : العربية أزمة لغة أم أزمة مجتمع ؟. دعي كل من السادة البشير بن سلامة ومحمود الذوادي وأحمد المراكشي لتقديم مداخلات تكون منطلقا للحديث حول المسألة المذكورة. ولئن كان السيد البشير بن سلامة غير غريب عن الموضوع من منطلق مسؤولياته السياسية السابقة خاصة منها وزارة الثقافة وإصداره لكتب حول عدد من الجوانب التي تهم اللغة العربية فإن السيدين الذوادي والمراكشي وباعتراف منهما لم يكونا من أهل الإختصاص. وكان من الممكن أن تقع دعوة أساتذة متخصصين في اللغة والآداب العربية ممن تزخر بهم الجامعة التونسية إلى جانب هؤلاء. لأنه صحيح كلنا يمكن أن ندعي معرفتنا باللغة العربية وكلنا يمكن أن نتحفز إن شئنا للدفاع عن لغة تونس الرسمية ولكننا نبقى مفتقرين للدقة اللازمة وللقدرة على طرح الأسئلة الجوهرية ما دمنا لسنا من أهل الإختصاص. في مقابل ذلك كان لمشاركة الحضور بعد الإنتهاء من الورقات الثلاث الدور الهام في تحقيق الفائدة من هذا اللقاء وكان من بينهما أسماء معروفة على غرار مصطفى الفيلالي وأبو يعرب المرزوقي وعدد من الجامعيين في اختصاصات متعددة من بينها التاريخ واللسانيات الفرنسية وغيرهما. التعليم والتعريب أكد السيد البشير بن سلامة في مداخلته التي افتتح بها برنامج المداخلات أن اللغة العربية عرفت تقهقرا. ولاحظ أن الأمر تكشفه وسائل الإعلام السمعية البصرية فهناك قصور حسب رأيه في التعبير خاصة لدى الإعلاميين من الشباب بالخصوص الذين يستهينون حسب قوله باللغة العربية إما عمدا أو قصورا. وبعد الإقرار بوجود أزمة تعاني منها اللغة العربية ببلادنا عدد المتدخل الأسباب فأعاد الأزمة بالخصوص إلى نظام التعليم الذي وقع اتباعه منذ الإستقلال وإلى التعريب. بالنسبة للتعليم يكمن الداء حسب البشير بن سلامة في الإنزلاق إلى إختيار ثنائية اللغة من جهة والحرص على جعل تعليمنا جماهيريا ونخبويا في آن واحد وهو ما لايمكن أن يحدث حسب رأيه. أما بالنسبة للتعريب فهو يرى بالخصوص أن المسألة غير واضحة وسط ما أسماه بعدم وجود رؤية محددة للساهرين على قطاع التربية حول الموضوع. في مقابل ذلك توقف المتدخل عند دور مجامع اللغة العربية في الدول العربية ومن بينها بيت الحكمة بتونس. حققت هذه المجامع حسب رأيه كثيرا من الفوائد لكنه ينتظر منها ما هو أكثر. قام المحاضر بنفس المناسبة بقراءة تأريخية لتطور اللغة العربية ببلادنا فلاحظ أن المجتمع التونسي تعرض لعدة تأثيرات خارجية انعكست سلبا على اللغة العربية. فالأتراك والإسبان والفرنسيون وعدة جنسيات أوروبية أخرى أدخلت عناصر جديدة على اللغة العربية وتسببت في تعقيد الوضع الذي ازداد تفاقما حسب رأيه مع دخول الحماية إلى بلادنا. ما نشاهده اليوم ليس جديدا حسب البشير بن سلامة وإنما تجد الأزمة جذورها عند الحركة الإصلاحية في تونس ما قبل الإستعمار التي تبنت النهج الغربي في التعليم والمؤسسات الإدارية. من جهة أخرى توقف المتدخل عند ظهور الحركات النضالية التي تحركت سياسيا وثقافيا أيضا من أجل حماية هوية البلاد وعدد الأسماء ومجلات الفكر والأدب التي تحركت في هذا الإتجاه. وانتهى المحاضر باقتراح يتمثل في بعث مجلس أعلى مستقل للتربية. السيد محمود الذوادي الذي أعاد اهتمامه بقضية اللغة وهو الدارس لعلم النفس حسب ما أكده في بداية تدخله أعاد اهتمامه بقضية اللغة إلى دراسته بالجامعات الأمريكية والكندية. المسألة واضحة بالنسبة له فالعلاقة بين اللغة الوطنية وفق تسميته لها وبين التونسيين غير طبيعية. واللغة العربية حسب رأيه لا مكانة لها عند التونسي لا في قلبه ولا في عقله. وهو يرى أنه بعد 52 سنة من الإستقلال تبقى العلاقة بين المثقفين في تونس في أغلب الأحوال متذبذبة. هناك ميل حسب المتدخل لدى التونسيين وخاصة التونسيات إلى اللغة الفرنسية. العلاقة المتوترة مع اللغة العربية حسب وصفه لها ستنتهي حسب الذوادي مع نشأة أجيال جديدة تستعمل تلقائيا اللغة العربية وتمنحها المكانة الأولى في القلب والعقل أي بعد الوصول إلى ما أسماه بالتعريب النفسي. الأستاذ أحمد المراكشي جامعي وعميد كلية سابق ( مدرسة المهندسين ) وجه دعوة ملحة بالمناسبة إلى إيجاد حل عاجل إلى أزمة اللغة بالبلاد. فهو حسب ما قدمه خلال مداخلته يرى أن الطلبة اليوم لا يحذقون لا العربية ولا الفرنسية ولا الإنقليزية. حتى أساتذة الجامعة شملهم الحكم فهم بدورهم في حاجة إلى التكوين في مجال اللغة. وانتهى المتدخل إلى أن نظامنا التعليمي الرسمي الذي يسعى إلى فرض ثلاث لغات جعلنا نخسر وقتا طويلا وجعل خريجي الجامعة لا يحذقون أي لغة من بينها والكلام له... بورقيبة والمسعدي والمسؤولية أثار موضوع اللغة العربية الرغبة في النقاش لدى الحضور. كانت الكلمة الأولى للأستاذ مصطفى الفيلالي قال : من نكد الأيام أن تثار اليوم من جديد قضية إدراج الدين الإسلامي واللغة العربية في الدستور التونسي بعد وقت طويل من الذود على اللغة العربية ببلادنا. قضية التصادم بين اللغات بالنسبة للأستاذ الفيلالي قضية موجودة عبر التاريخ. لكنها اليوم برأيه قضية سياسية تكشف عن انحراف ثقافي واستقالة عن الإضطلاع بمسؤولية الدفاع عنها. وحمل المتدخل النخبة التي شاركت في بناء الدولة الحديثة ومن بينهم حسب قوله الأستاذ محمود المسعدي وقبله الزعيم بورقيبة في ما أسماه بفشل توطين اللغة العربية بالبلاد. وهو عندما يتكلم عن المجتمع اليوم فإنه يرى أن فرض ثلاث لغات على أبنائنا سيكون على حساب اللغة الأصلية. وقد علق أكثر من متدخل على مسألة الدور السلبي الذي لعبه الأتراك بالنسبة للغة العربية بتونس وفق ما جاء في قراءة السيد البشير بن سلامة فكان أن عارض الأستاذ التميمي مثلا هذا الرأي وعبر أحد الباحثين الذي درس اللغة التركية أيضا عن معارضته لهذا الموقف. توجه الأستاذ أبو يعرب المرزوقي بالنقد إلى المداخلات الثلاث حيث لاحظ بشأن التدخل الأول أن التشخيص التاريخي لقضية اللغة بالبلاد يحيلنا حتما إلى طرح مسألة الخيار السياسي في البلاد التونسية أما بشأن المداخلة الثانية التي تناولت العلاقة بين التونسيين واللغة العربية وانتهت بتشخيص أزمة نفسية فإن الباحث أبو يعرب المرزوقي تساءل عن غياب المنهج وعن المعطيات العلمية التي تسمح ببناء نظرية الأزمة النفسية. وهو بالنسبة له لا يعتقد أن هناك أزمة نفسية مع اللغة في المجتمع التونسي. بالنسبة لعلاقة المرأة التونسية التي قال عنها المتدخل الثاني أنها ربما تكون سببا رئيسيا في الخلط والمزج بين اللغتين الفرنسية والعربية لأنها أي المرأة أميل إلى الفرنسية حسب رأيه فإن المرزوقي لم يتردد في نعت هذا الحكم بالإفتقار إلى العينة المطلوبة وبالتالي إلى منهج علمي دقيق. وقد توقف متدخلون آخرون حول نفس النقطة ذلك أن الحكم على المرأة التونسية ووفق الطريقة التي تم تقديمها في عرض السيد الذوادي لم يكن مقنعا. بالنسبة للمتدخل الثالث فإن معلقا لاحظ أن فرض أكثر من لغة على التلميذ له عيوبه لكن الإنفتاح على اللغات العالمية مسألة ضرورية للإنفتاح على العالم. ارتفعت بعض الأصوات في ورشة العمل حول اللغة العربية لتخفف من حدة النقاش ولتجعل الأمور نسبية. فقد نادى أستاذ اللسانيات الفرنسية السيد البشراوي إلى تجنب المبالغة والتحسر على وضع اللغة وإلى نبذ المغالاة في التصحيح اللغوي لأنه قد ينتج عنها النفور من اللغة. المزج اللغوي موجود حسب بوراوي الطرابلسي الباحث في تاريخ العلوم الإسلامية (كلية الآداب بمنوبة) وهو برأيه موجود حتى في القرآن الكريم.