يحيي التونسيون يوم 15 أكتوبر الذكرى 54 لجلاء آخر جندي فرنسي عن بنزرت وفرض الدولة سيادتها على كامل التراب الوطني بعد مسار ديبلوماسي شاق وتضحيات غالية بذلها الآلاف أيام الجمر. وتنقل "الصباح " في الجزء الأول من هذا المقال شهادات مؤرخين تونسيين وأجانب حول ما وقع بين تونسوفرنسا في الفترة الفاصلة بين إعلان الاستقلال والحصول على الجلاء فيما يخصص الجزء الثاني للحديث عن واقع الجهة وانتظارات سكانها. تونس ترفض الابتزاز في مقال بعنوان "القاعدة العسكرية ببنزرت تواصل نظام قديم أو ظهور تفاهم جديد"تساءل عميد جامعة مرسيليا شارل دباش عن الوضعية القانونية للقاعدة العسكرية الفرنسية ببنزرت بعد إعلان استقلال تونس والذي تلاه مباشرة بيان توضيحي من الحكومة الفرنسية جاء فيه "إن اتفاق 20 مارس 1956 لا يغير وضع الجيش الفرنسي في الأراضي التونسية اذ سيبقى في مواقعه ويواصل القيام بالمهام الموكولة إليه.. وعليه تحافظ منطقة بنزرت على وضعيتها السابقة المحددة باتفاقية جوان 1955". تفسير المستعمر لاتفاقية الاستقلال أكده مضمون الرسائل المتبادلة بين الحكومتين التونسية والفرنسية يوم 8 افريل 1956 والتي تتيح للأولى طلب مساعدة الجيش الفرنسي لفرض الأمن في الأراضي التونسية ويؤكده اتفاق5 أكتوبر1956 الذي يتيح للفرنسيين حماية مصالحهم الموجودة على الأرضي التونسية ومراقبة حدودها البحرية ومجالها الجوي.. لكن هذه التفاهمات المكتبية أججت غضب قطاع واسع من المواطنين الطامحين لاستقلال تام مما دفع الحكومة التونسية إلى محاولة التنصل منها لكن الجانب الفرنسي تمسك بأحقيته في إدارة الشؤون الأمنية العسكرية في البلاد فانتقل حينها الصراع إلى منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة أين خطب منجي سليم في 30نوفمبر 1960 مفسرا المسالة التونسية للداخل والخارج "إن الأنظمة الاستعمارية تبتز الدول المحتلة قبل تمكينها من استقلالها فتفرض عليها اتفاقيات مجحفة في مجالات الاقتصاد والثقافة وتتمسك بإدارة مناطق إستراتيجية.. فيجبر المفاوضون حينها على القبول للحصول على استقلال نظري فقط "وطالب المنجي سليم من المستعمر"مراجعة الاتفاقيات السابقة الباطلة لأنها تمت تحت الضغط". هذا الطلب لم تستجب إليه فرنسا رغم لقاء الرئيس بورقية بنظيره شارل ديقول في 27 فيفري 1961 فلم يفض إلى نتائج ملموسة بل مهد فشله لقرع طبول الحرب؛عن ذلك اللقاء يقول المؤرخ رشيد الذوادي"كانت الحكومة الوطنية محتاجة إلى الحفاظ على موقعها المتقدم في حركة التحرر من الاستعمار، وهو ما أكد عليه بورقيبة في لقائه بالجنرال ديغول في27 فيفري 1961، ذلك اللقاء الذي أسال حبرا كبيرا وكان انتهاؤه دون اتفاق فاتحة مسار من سوء الفهم الدموي بين البلدين. فعلى المستوى السياسي كان بورقيبة في حاجة أكيدة للخروج من موقع الولاء لفرنسا الذي وضعه فيه خصومه على الساحة الدولية والعربية، وكان تحقيق ذلك يمر حتما عبر عمل قوي يجدد شرعيته كمعاد للاستعمار وكزعيم بلا منازع للتونسيين الذين كانوا عرضة لدعايات عابرة للحدود"وأضاف الذوادي" لقد اتخذ مسار الأحداث نسقا تصاعديا على المستوى الدبلوماسي أو الوطني. وقد ترجمت عن ذلك حركية مبعوثين بين البلدين حاول من خلالها كل من التونسيين والفرنسيين تحقيق أهدافهما دون مواجهة عنيفة، ولكن مع وضع الصدام في دائرة المتوقع. وبالتوازي مع ذلك شرعت الحكومة– التونسية- عبر أجهزتها، وخاصة عبر النشاط الحثيث للهياكل الحزبية، في تعبئة الرأي العام الوطني من أجل تطهير الوطن من آخر جندي فرنسي". المواجهة المحتومة في مارس1961 توقفت المحادثات والمراسلات بين التونسيين والفرنسيين وكان التسلسل المنطقي للأحداث يشي بصدام محتوم بين الطرفين لسبب أو لأخر.. ذريعة المواجهة لم تتأخر فإعلان الأميرال "موريس امان" يوم 4 ماي 1961 توسعة ممر هبوط الطائرات بقاعدة سيدي احمد الجوية اعتبره التونسيون سلوكا عدوانيا وخرقا للاتفاقات السابقة وفي مسايرة لرغبة المواطنين الجامحة في تحدي المستعمر وطرده من بنزرت أصدرت الحكومة قرارا بحفر خنادق وبناء جدران حول القاعدة الجوية الفرنسية لمحاصرتها في حركة اهتزت لها قيادة جيش المستعمر الذي يعتبر بنزرت ولاية بحرية فرنسية تمتد على 600كم مربع وتشمل جملة من المواقع والتحصينات البحرية والبرية والجوية التي تمتد من الماثلين إلى الخروبة ومن سيدي احمد إلى منزل بورقيبة.. كما أكد الدكتور نور الدين الدقي في محاضرته - بنزرت عبر التاريخ والتي جاء فيها أيضا"بدا الموقف يشهد تصعيدا، إذ اجتمع الديوان السياسي للحزب الدستوري يوم 4 جويلية واصدر بيانا يدعو فيه الى ضرورة خوض المعركة لاستعادة بنزرت والاستعداد للتنفيذ وانطلقت يوم 5 جويلية عملية التعبئة الشعبية في كامل أنحاء الجمهورية وتم إيفاد مئات المتطوعين من الشباب والكشافة والمقاومين إلى بنزرت وشهدت مدن بنزرت ومنزل بورقيبة ومدنين بين يومي 6 و18 جويلية حركات جماهيرية لا مثيل لها في تاريخ تونس المعاصر اذ انتظمت مظاهرات شعبية صاخبة تنادي بالجلاء ورفع السلاح وطوقت أفواج المتطوعين الثكنات والتحصينات الفرنسية وصدرت يوم 13 جويلية أوامر للجيش الوطني للتأهب لخوض المعركة وبدأت وحداته في إقامة المتاريس وحفر الخنادق بالتنسيق مع قوات الحرس الوطني والمتطوعين واكتملت التعبئة وأصبحت بنزرت ومنزل بورقيبة تحتضنان أكثر من 10 آلاف رجل على استعداد لخوض المعركة".. رد المستعمر لم يتأخر إذ أرسلت الحكومة الفرنسية تعزيزات عسكرية ضخمة على متن حاملة طائرات وثلاث بوارج إلى سواحل بنزرت وأفواجا من المظليين أطلقت أيديهم في بنزرت انطلاقا من 19 جويلية1961 فأوقعوا حسب الإحصائيات الرسمية670 شهيدا و1155 جريحا تونسيا مقابل 30 قتيلا و100 جريح فرنسي وعددا كبيرا من الأسرى من الطرفين بعد مواجهات دامية عاشها المؤرخ رشيد الذوادي" معركة بنزرت جسّدت طموح التونسيين في الاستشهاد والبذل والتضحية، وواكبت أحداثها، وتضرّرت عائلتنا فيها، حيث فقدنا أخي الشهيد محمد الحبيب الذوادي، الذي استشهد حرقا بالنبالم يوم22 جويلية1961، وفقدت والدتي بصرها بسبب هذا الاعتداء بالطائرات على المجاهدين في معركة غير متكافئة وقتئذ وبشهادة الصحافة الفرنسية نفسها ومنها:«باري ماتش» الصادرة يوم 5 أوت 1961 وقد استشهد الكثير من أبناء قفصة، والرديف وبنزرت ونابل والقيروان وباجة والقصرين ومدنين وغيرها من الجهات". فلم تكن معركة بنزرت مقصورة على أهلها بل معركة كل التونسيين. العالم ينتصر لتونس تطور الأحداث نبه العالم للمأساة نجح الضغط المتواصل من المجموعة الإفريقية الأسيوية في دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة على عقد اجتماع استثنائي يوم 23 أوت 1961 لمناقشة الوضع في تونس واتخاذ القرارات اللازمة رغم التحفظات الفرنسية هذا الموعد استبقه التونسيون بتحركات احتجاجية بلغت أوجها يوم18 أوت حين صدرت الأوامر من مدير الحزب الحر الدستوري الجديد لرئيس بلدية بنزرت الراحل الدكتور رشيد التراس بقيادة مسيرة ضخمة وإبلاغ رسالة إلى الوالي مفادها أن الشعب التونسي يريد الجلاء التام للفوات الفرنسية. لكن الاحتجاجات لم تجد نفعا ولم تغير الوضعية على الميدان.. إلى حين خطاب الجنرال دي قول في 5 سبتمبر 1961 الذي اقر فيه ب"رغبة الحكومة الفرنسية في عقد اتفاق مع نظيرتها التونسية على قاعدة(موديس فيفندي) خاصة ببنزرت أي ان يتعايش الطرفان في المدينة في سلام وأضاف ديغول" وبعد ذلك سيتم التفاوض حول قواعد استعمال القاعدة العسكرية مع مراعاة الوضعية الحرجة التي يعيشها العالم"هذا الخطاب الذي أشار لأول مرة للطبيعة الوقتية لتواجد الفرنسيين في بنزرت استغله الرئيس الحبيب بورقيبة وطالب بجلاء تام للقوات الأجنبية من المدينة دون شروط.. وبعد مفاوضات طويلة تم الاتفاق في مرحلة أولى على تبادل الأسرى بين الطرفين في عملية شملت 780 تونسيا و213 فرنسيا. ثم إمضاء اتفاق يوم 29 سبتمبر يؤكد على ضرورة التعايش السلمي بين الطرفين طيلة المدة التي يستغرقها البت في مسالة بنزرت، وهي فترة تواصلت سنتين و15 يوما بالضبط تم بعدها جلاء أخر جندي أجنبي عن بنزرت فاستكملت الدولة التونسية سيطرتها على كل الأراضي والمياه والأجواء الوطنية وتحصلت في 15 أكتوبر 1963 على استقلالها الفعلي بعد 7 سنوات من برتوكول الاستقلال الأول الممضى في 20 مارس 1956. هل يكون المستقبل أفضل؟ بعد استعادة بنزرت من المستعمر كانت انتظارات أهاليها كبيرة جدا من الدولة الحديثة، اقلها الحفاظ على مستوى العيش والبنية الأساسية التي خلفها الفرنسيون والتي بقيت منها شواهد عديدة خاصة في عاصمة الولاية ومدن منزل بورقيبة وماطر لكن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لم يتحسن نهاية الستينات وبداية السبعينات حسب شهادة صالح البلغاجي بل ساء لغياب أسباب الكسب بعد توقف "الارسنال" عن العمل. وضعية دفعت المئات من أبناء مدن بنزرت ومنزل عبد الرحمان ومنزل جميل ومنزل بورقيبة للهجرة نحو الضفة الأخرى من المتوسط وهو ما كان له اثر لاحق على التوزيع السكاني انطلاقا من بداية ثمانينات القرن الماضي اذ توسعت المدن وبرزت فيها أحياء جديدة راقية عمرها عمال سابقون بالمهجر.. كما ساهمت الاحداثات الصناعية الضخمة في جرزونة ومنزل بورقيبة وبنزرت في خلق الآلاف من مواطن الشغل وظهور أحياء سكنية أخرى بعضها عشوائي لكن التطور السكني والتمدد العمراني كان مقابل ضريبة بيئية دفعتها الأجيال اللاحقة مما دفع للحكومات المتعاقبة خاصة بعد الثورة للاستثمار مجددا في إصلاح البنية الأساسية المتهرئة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المخزون الطبيعي للجهة من بحيرات وبحار وأراض زراعية. مشاريع ضخمة في الانتظار ويعتبر تطهير بحيرة بنزرت من أهم هذه المشاريع فتكلفته تفوق 200 مليون دينار وعدد السكان المستهدفين الذين يتوزعون على ثمانية معتمديات يحتضن بعضها المصانع المضرة بالمحيط كالفولاذ وتكرير نفط وتكرير زيت صناعة الاسمنت أين يتم استعمال الفحم البترولي الخطير فيما تتأثر بقية المناطق بطريقة غير مباشرة نتيجة بلوغ شواطئها وأراضيها إفرازات تلك المصانع.. ومن المشاريع الهامة التي قد تتغير إلى الأفضل حياة القسم الشرقي من الولاية تعتبر الوصلة الثابتة بين بنزرت والطريق السريعة مطلبا ملحا نادى به المتساكنون منذ تزايد الحمل على القنطرة الحالية، هذا المشروع الذي يتكلف 500 مليون دينار تجاوز عائق الدراسات والتمويل لكن انجازه يرتبط بتصفية الوضعيات العقارية الشائكة في معتمديات جرزونة ومنزل جميل وبنزرت الجنوبية.