ايّام قليلة تفصلنا عن ذكرى 26 جانفي 1978 وهو تاريخ ارتبط سياسيا واجتماعيا بذاكرة التونسيين لما عاشته بلادنا حينها من احداث كشفت هشاشة الوضع آنذاك. ولَم يكن للأحداث ان تتطور لولا الاتحاد العام التونسي للشغل الذي حول مجرى التاريخ بعد ان تدخلت هياكل المنظمة الشغيلة وتحركت ميدانيا ليكون الدم التونسي عنوانا اخر في التسلسل الزمني في بلادنا. سنة 78 مازالت جرحا مفتوحا في عقول وقلوب النقابيين لما عاشوه من سجون وتعذيب مازال يسكن ذاكرة من عايشوا تلك الفترة، ومنهم المناضل النقابي والسياسي عبد المجيد الصحراوي الذي كان محركا أساسيا للأحداث بعدة جهات وأساسا جهة سوسة ومنطقة الساحل عموما. «الزعيم» لم تكن تجربته نقابية فحسب بل مارس العمل السياسي ضمن هياكل نداء تونس وفي إطار ما يعرف بالرافد النقابي لينسحب منه ويؤسس حركة مشروع تونس صحبة عدد مهم من المناضلين والنقابيين كمصطفى بن احمد ومهدي عبد الجواد وغيرهم لينسحبوا جميعا من الحزب بعد ان ضاق الخناق عليهم ليتراجع اداء المشروع ويكتفي بالترويج لصورة امينه العام. الصحراوي من التجربة النقابية الى التجربة السياسية، مراحل امتدت على مدى اربعة عقود من النضال عايش خلالها زعماء مازال صدى أسمائهم قائما الى حد الان. «الصباح» التقته ولخّصت معه فترة مهمة من حياة البلاد، 26 جانفي أو ما بات يسمى الخميس الأسود واستتباعات التحرك التاريخي للاتحاد العام التونسي للشغل فكان هذا الحوار. -بداية كيف تقيم الوضع العام للبلاد؟ كما تلاحظون فان الواقع الراهن حشرنا في زاوية الأمل المؤجل في ظل وضع يتسم بالضبابية وتعثر واضح للمسار الانتقالي لانه لم يقع الربط بين هذا المسار والاصلاحات الاجتماعية الأكيدة التي قامت من اجلها الثورة، فالبطالة تعرف ارتفاعا في نسبها شانها شان الفقر بالاضافة الى اهتراء الطبقة الوسطى وهو ما اثر سلبا على الحياة اليومية للتونسيين. من يتحمل هذه المسؤولية خاصة وأنك انتميت الى حزب زعم انه قادر على تسيير أربع دول؟ بات واضحا ان اغلب الاحزاب تفتقد لرؤي اقتصادية واجتماعية حيث مازالت مقتصرة في خطاباتها على العناوين العامة لان اهتمامها مركز أساسا على الانتخابات التي تبقى هاجسها الاول. هل تقصد بذلك حتى الاحزاب التي شاركت في تأسيسها؟ نعم هذا واضح بما في ذلك حزب نداء تونس الذي كانت منطلقاته اجتماعية خاصة اثر هيمنة حركة النهضة على كل مفاصل الحياة الاجتماعية والسياسية حيث استطاع النداء جمع عددا كبيرا من المثقفين والسياسيين من اجل اعادة المسار الا ان ذلك لم يفلح بعد انقلاب مجموعة على المسار الأساسي. اما بالنسبة لمشروع تونس فقد انحرف بدوره عن مساره بعد ان تحول الحزب الى مقاولة لخدمة اجندات خاصة ومجموعات متسللة وانتهازية وهو ما يذكرني بذلك المثل القائل «هربنا من تحت القطرة جينا تحت الميزاب». ماذا حصل بالضبط؟ عند بداية التاسيس كان المشروع حاملا لهموم الوطن وهو ما دعا بالجماهير السياسية للتجاوب معنا والتحقوا بالفكرة الى ان تبين ان الامين العام انقلب على الفكرة بمعيّة بعض المحيطين به وصار يسعى لإقصاء حاملي الفكرة الحقيقية والأصلية وسار ينتدب من بقايا التجمع، يحصل كل ذلك مع غياب واضح للخط السياسي الذي يقود الحزب مما جعله حركة خاضعة لمزاجية الامين العام وتقديراته الشخصية. على عكس ما ذهبت اليه فان الحزب يؤكد على التمشي الديمقراطي وان المنسحبين ماهم في الواقع الا الخاسر الأكبر في الانتخابات داخل المشروع؟ بداية وجب التوضيح ان المنسحبين هم من المؤسسين ومن القيادات العليا ومن مختلف هياكل الحزب من المكتب التنفيذي الى المكتب السياسي الى القيادات الجهوية والمحلية وأساسا من نواب برلمانيين. اما بخصوص الادعاء بالباطل بشأن الديمقراطية داخل الحزب فاني ادعو «الديمقراطيين جدا» داخل الحزب ان ينشروا قوائم المنخرطين، حيث اؤكد لكم ان المشروع لا منخرطين قارين فيه. وان الحديث عن الديمقراطية مثير للدهشة وللغرابة لان هذه العملية أشبه ما تكون بمسرحية مكشوفة حيث يقع تعيين الشخص ووضع الطريقة المناسبة لانتخابه، والدليل على ان هذه المؤتمرات صورية هو ان الحزب لم يبت في اَي من الطعون المقدمة له وهو ما فتح الأبواب امام الانسحابات والاستقالات التي اضرت بصورة الحزب امام الرأي العام. بعيدا عن الاحزاب ونحن نحيي الذكرى 40لاحداث 26 جانفي 78 كيف تتذكر ذلك الْيَوْمَ؟ واجه الاتحاد سياسات الاحتواء والتدجين منذ تاسيسه ودافع عن الخيارات الديمقراطية، فيوم 26جانفي عشته كمنعرج في حياتي النقابية كمناضل نقابي بجهة سوسة حيث كنت مع مجموعة نستعد للدفاع عن المقر ضد ميليشيات الحزب الحاكم، وقد انطلقت الأحداث في مدينة قصر هلال بعد تدخل الجيش اثر تحركات عمالية هناك، وبعد التهديد باغتيال الزعيم حبيب عاشور من طرف المليشي عبد الله المبروك، ليكون رد الفعل النقابي بالدعوة الى إضراب جهوي بكامل جهة سوسة وإضرابات دورية بكامل تراب الجمهورية. كل تلك العوامل مع الأجواء الاجتماعية الساخنة وتعدد الإضرابات وتدهور الأوضاع المعيشية قابلتها سياسة تصلب من حكومة الهادي نويرة في ذلك الوقت وهي كلها أسباب مباشرة أدت الى إضراب 78 وشكلت منعرجا سياسيا في البلاد مع اعلان انفصال الاتحاد عن الحزب الحاكم اثر الاستقالة المدوية للزعيم النقابي حبيب عاشور من الديوان السياسي للحزب والتخلي عن كامل مسؤولياته الحزبية ليتبعه في ذلك عدد كبير من القيادات المواطنية والجهوية. كيف تعاطت الدولة مع هذا التحول السياسي والاجتماعي؟ شهدت الدولة انقساما واضحا لتتحول من كتلة سياسية موحدة الى بين جناحين في السلطة، جناح اول دعا الى حل الخلاف مع الاتحاد بانتهاك سياسة الحوار وان الحل الأمني والميليشي لا يخدم الاستقرار ليعرف هذا الجناح بدوره إقصاء ممنهجا من الحكم وقد لعب الباجي قائد السبسي دورا مهما لنزع فتيل الأزمة واقناع الزعيم بورقيبة باهمية الحل التوافقي والحوار مع قيادات المنظمة الا ان ذلك لم يفلح لينتقل قائد السبسي للتعبير عن مساندته للاتحاد في منابر الحرية سواء في جريدة الرأي أو la democracie شانه شان احمد المستيري وحسيب بن عمار كما لا ننسى تدخل ابو أياد. اما الشق الثاني فقد اعتمد سياسة الهروب الى الامام ليعتمد منهج التصلب وكان ذلك بقيادة الهادي نويرة ومحمد الصياح اللذين دفعا الأزمة نحو المواجهة الدموية خلال الإضراب العام بعد ان أسفر عن مئات القتلى والمعتقلين حيث تحركت الميلشيات التي كونها مدير الحزب آنذاك محمد الصياح ولعبت دورا أساسيا في التخريب والنهب بنية توريط الاتحاد في الخراب الحاصل. ولم يتوقف الامر عند هذا الحد بل تجاوزه الى المقرات الأمنية حيث تم تعذيب النقابيين واجبروا على توقيع محاضر بحث لم يدلوا بها وهو ما حصل مع النقابي الشهيد حسين الكوكي ثم الشهيد سعيد قاقي لاحقا. لننتقل الى مرحلة المحاكمات حيث ألصقت تهم جد خطيرة على غرار حمل المواطنين على مواجهة بعضهم البعض بالسلاح واثارة الحرق والقتل بالتراب التونسي ليحاكم النقابيون من مختلف الجهات حيث نال الحبيب عاشور والمرحوم عبد الرزاق غربال 10 سنوات. كيف تعاطى الاعلام الوطني والدولي والنقابات الدولية مع هذه الأحداث؟ لعبت الصحافة الوطنية دورا أساسيا ومنها جريدة «الصباح» حيث غطت الاستنطاقات والمحاكمات شانها شان جريدة الرأي وla democracie وجريدة الشعب دورا لانارة الحقيقة للراي العام آنذاك. وقد تدخلت النقابات العالمية اساسا السيزل وكاتبها العام «اتوكريستل»الذي التقى الزعيم حبيب بورقيبة كما التقى الزعيم حبيب عاشور في زنزانته وَقّاد حملة دولية تضامنية مع النقابيين التونسيين. بعد نحو 40 عاما من احداث 1978 كيف يجد النقابييون أنفسهم الْيَوْمَ؟ حقق الاتحاد مكاسب وطنية واجتماعية مهمة عبر تاريخه ولكن ذلك لا يمنعنا من الحديث عن التجاوزات والاقصاءات التي تعرض لها قياديون ومناضلون بدفع من السلطة على غرار احمد التليلي والحبيب عاشور لتتواصل نفس الممارسات زمن الرئيس السابق زين العابدين بن علي ليتم إقصائي سنة 1996من عضوية المكتب التنفيذي وقد عرف النقابي علي بن رمضان والطاهر الشايب وكمال سعد تزويرا لنتائجهم في مؤتمر وطني بالكرم حيث لعب الامين العام السابق اسماعيل السحباني دورا محوريا في تزييف إرادة النقابيين. وقد حان الوقت من القيادة الحالية للاتحاد ان تتوجه للسلطة لكشف حقيقة احداث 1978حفاظا على الذاكرة وردا لاعتبار النقابيين وهذا ليس تشفيا وإنما انصافا للنقابيين الذين ضحوا بأنفسهم من اجل ضمان إستقلالية المنظمة.