صمد الشاذلي العياري في منصبه منذ تعيينه في 24 جويلية 2012 محافظا للبنك المركزي في وجه كل الأزمات المالية العنيفة التي هزّت الاقتصاد الوطني وجعلته يترنّح أكثر من مرّة، وصمد الشاذلي العياري السياسي الذي تقلّد مناصب وزارية زمن بورقيبة والدبلوماسي المحنّك والمدير تنفيذي لمجموعة البنك الدولي وعضو المكتب الاستشاري لبنك التنمية الإفريقي أمام كل «الأنواء» و»العواصف» التي هزّت المشهد السياسي في السنوات الخمس الأخيرة واستطاع أن ينأى بمنصبه على رأس البنك المركزي عن كل «رياح التغيير» المتلوّنة حزبيا وسياسيا والتي هبّت على كل المناصب في الدولة ولم يصمد أمامها إلا محافظ البنك المركزي.. الشاذلي العياري! قد يكون من غير المنصف الحكم على تجربة الرجل ككل، على رأس أهم مؤسسات رسم السياسيات الاقتصادية في أي دولة، فالشاذلي العياري الذي يقود السياسية النقدية للدولة وتوازناتها المالية والذي يتحكّم عمليا في نسق نموها الاقتصادي ويراقب جهازها المصرفي ويضبط آليات التحكّم في احتياطي العملة الصعبة وسعر الفائدة، منذ ستّ سنوات، يتحمّل جزءا من المسؤولية في علاقة بالوضع الاقتصادي الراهن، ولكن السنوات القادمة كفيلة لوحدها بتثمين أو «تبخيس» سنواته على رأس البنك المركزي رغم الحصيلة المخيّبة للآمال في الوقت الحالي. الشاذلي العياري الذي لم يحظ بإجماع سياسي عند اقتراحه على رأس البنك المركزي، استطاع أن يجاري معارك الكواليس السياسية الطاحنة التي أطاحت بسلفه مصطفى كمال النابلي وجعلته يتقلّد المنصب بعده، في فترة سياسية حرجة من تاريخ تونس بعد الثورة، مستفيدا من خبرته وكذلك من خلفيته السياسية باعتباره «ولد الماكينة» وهو القادم من المنظومة القديمة التي عرفت كيف تحافظ على مواقعها في الدولة وتتجاوز ب»ذكاء مفرط» تلك المرحلة المربكة التي تلت هروب بن عليّ، نجح العياري في البقاء على عرش السياسة النقدية التونسية خلال مدّة حكم، سبع حكومات متعاقبة وهي الترويكا الأولى والثانية، حكومة المهدي جمعة، حكومتا الصيد الأولى والثانية، وحكومتا الشاهد الأولى والثانية.. سبع حكومات اكتوت ب»سنوات الجمر الاقتصادية» إلا العياري قاد سنوات الجمر ولم تكتو يداه.. مستفيدا من شبكة علاقات محلّية ودولية استطاع الخبير الاقتصادي «الثمانيني» بخبرته أن ينأى بنفسه عن المواجهات المباشرة مع الأحزاب والسياسيين والحكومات المتعاقبة وأن يحافظ على مسافة «احترام» بينه وبين كل الأطراف رغم بعض «التشنّجات» العابرة خاصّة مع كل بوادر أزمة اقتصادية جديدة . ولكن المحافظ الذي فشل من أشهر قليلة في الحصول على الترقيم «أ» لقياس نجاعة المسؤولين الأوائل عن البنوك المركزية في التصنيف السنوي للمجلة الأمريكية «غلوبال فينوس» التي تقيّم نجاعة محافظي البنوك المركزية في 83 بلدا بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي واكتفى بالترقيم «ب» بالنظر إلى الانجازات التي حققّها في مجال مراقبة التضخّم وبلوغ أهداف النمو الاقتصادي والاستقرار النقدي والتحكّم في نسبة الفائدة، وفق معايير «غلوبال فينوس»، قال عن نفسه ذات تصريح للقناة الوطنية في 2013 أن المستثمرين الأجانب وصفوه ب»الشحّاذ الدولي» لأنه يسعى في كل لقاء لجلب الاستثمار وضخ الأموال لتونس وأن هذا اللقب يشرّفه مادام سيخدم المصلحة الوطنية. ولكن هل نجح «الشّحاذ الدولي» في شحذ الاستثمارات اللازمة للنهوض بالاقتصاد الوطني وفي جلب الأموال التي تنقذنا من شبح الإفلاس الذي يحوم حول الدولة منذ سنوات؟ الواقع يبدو مخيّبا لآمال المحافظ الذي خيّر مكاشفة الرأي العام بكل تلك الخيبات الاقتصادية والمؤشرات السلبية غير المسبوقة التي بلغها الاقتصاد الوطني، فنسبة المديونية تقترب من التهام 70 % من الناتج الداخلي الخام، الذي أجبر الدولة على الخروج من الأسواق المالية في 2018 في محاولة لتعبئة الميزانية بموارد ذاتية، لكن هذا القرار بدوره يضع الميزانية والاقتصاد الوطني في وضع لا يخلو من المجازفة. وفي نوفمبر المنقضي صرّح العياري أن عجز الميزان التجاري المسّجّل حينها «تاريخي» ومنذ أيام تراجع احتياطي العملة الصعبة إلى أدنى مستوى له منذ 15 سنة مضت، ومنذ أشهر يواصل الدينار انزلاقه دون توقّف، ورغم هذه الحصيلة «المزعجة» مهندسو الاقتصاد الوطني ومن أبرزهم الشاذلي العياري، يحاولون بكل الطرق تفادي الأسوأ، والأسوأ لن يكون إلا الإفلاس أو الارتهان الكلّي لدوائر النفوذ المالي الدولي ووفق شروط مجحفة قد لا يتحمّلها الاقتصاد الوطني الهشّ لا على المدى المتوسّط ولا على المدى البعيد. «معنديش ماكينة تطبع الدولارات» هكذا علّق الشاذلي العياري على تراجع احتياطي العملة الصعبة أمام مجلس نوّاب الشعب معترفا ضمنيا بأن كل نواقيس الخطر باتت تدقّ في نفس الوقت وأن لا مناص من التضحيات والرضوخ لسياسة البنك المركزي، سياسة قال عنها الشاذلي العياري منذ أشهر أنها «مؤلمة للعائلات..» ولكن اليوم بات «ألم» الإصلاحات موجعا أكثر لأغلب الفئات والمواطنين الذين يجدون أنفسهم مجبرين على احتمال وضع اجتماعي واقتصادي «لا يُطاق». وأمام تواصل انزلاق الدينار وانهيار المقدرة الشرائية وغلاء الأسعار والحراك الاحتجاجي الاجتماعي المتواصل على ميزانية 2018، لم يتحرّج الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي منذ أيام قليلة من الإعلان أن الاتحاد لا يُمانع في تغيير محافظ البنك المركزي الشاذلي، تصريح رأى البعض أنه إشارة لمن هم في السلطة للتحرّك وإيجاد حلول تمتصّ الغضب الشعبي المتفاقم أو لتقديم «كبش فداء» يحمل أوزار كل «الإصلاحات المؤلمة»، خاصّة وأن لهجة الطبوبي وهو يتحدّث عن محافظ البنك المركزي بدت حادّة ولاذعة عندما قال حرفيا :» باش ياخو وقتو ووقت غيرو خليه يتجدد وتجي طاقات أخرى». لكن هل يصمد العياري هذه المرّة أمام لغة الأرقام والنتائج، وهو الذي صمد أمام كل مطالب إقالته التي صدرت من أحزاب في الحكم وفي المعارضة، كما استطاع أن يتجاوز الضجّة التي أثارها حوله الخبير الاقتصادي ورئيس جمعية الحوكمة معز الجودي عندما اتهمه بأنه كان ينوي الترفيع في راتبه خمس مرّات ليصبح في حدود 28 ألف دينار في وقت تقف فيه البلاد على شفا الإفلاس؟ كما صمد أمام كل الاتهامات الخطيرة التي لاحقته، مثل اتهامه من طرف النائبة عن حزب نداء تونس صابرين القوبنطيني التي أكّدت أنه ارتكب خطأ خلال إجراءات تسديد الديون تسبّب في تكبد تونس خسارة ب120 مليون دولار حوالي 260 مليون دينار وطالبته بالاستقالة.. ولكن الشاذلي العياري لا يستقيل ولا يبدو أن هناك من يستطيع إقالته، فخلال الستّ سنوات الماضية، حاول الجميع فعل ذلك، ولكنهم غادروا الحكم دون أن ينجحوا في إقالة «المحافظ» بثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب!