"مازالو عشرين شهر نعد فيهم باليوم..." في خضم ما شهده مجلس نواب الشعب خلال عملية التصويت على هيئة الحقيقة والكرامة من انفلات بعد أن تحول إلى سوق للمزادات الشعبوية العلنية، مرت عديد الرسائل التي تضمنها خطاب رئيس الدولة الباجي قائد السبسي في ذكرى عيد الاستقلال دون توضيح يذكر بشأن برنامج رئاسة الجمهورية خلال الفترة المتبقية... وقد كان رئيس الدولة حريصا على تذكير خصومه قبل أنصاره بأنه لا يزال أمامه عشرون شهرا قبل انتهاء ولايته الرئاسية وهي تقريبا نصف المدة الرئاسية التي انتخب لأجلها ولكن ما لم يوضحه الرئيس هو توجهاته خلال هذه المدة المتبقية، وهو الذي اختار توخي الغموض والتعتيم بشأن انتخابات 2019 كما بشأن التحالف الهجين بين النداء والنهضة بعد كل الاهتزازات التي مر بها بدءا بالانتخابات الجزئية في ألمانيا وصولا إلى مسألة التصويت لهيئة الحقيقة والكرامة أو كذلك بشأن تغيير القانون الانتخابي أو المساواة في الإرث حيث ترك الكرة في كل مرة في ملعب الخبراء والأحزاب والمجتمع المدني لمناقشة الأمر.. والحقيقة أن هذا التوجه ليس جديدا على رئيس الدولة وهو الذي يبقى مناورا سياسيا بامتياز ويصعب حتى على المقربين منه قراءة ما خفي من نواياه أو قراءة حساباته.. لا خلاف أن ساكن قرطاج من يمسك خيوط اللعبة وهو من يلتقي الفرقاء كلما فاقت الأزمات كل الحدود وأصبحت منذرة بالخطر وقد التقى الأمين العام السابق لاتحاد الشغل حسين العباسي وهو ما اعتبر إشارة بأن كل المنافذ سدت في أزمة التعليم واستمرار احتجاز أعداد التلاميذ مع بدء العد التنازلي لنهاية سنة دراسية لا تزال معلقة.. وقد جاء إضراب قطاع التعليم بالأمس ليعكس حجم الأزمة ويفاقم مخاوف التونسيين بشأن مستقبل التعليم في بلادنا أمام استمرار تأجيل مشاريع الإصلاح التي ترفض أن تأتي، وهي في الحقيقة مسألة تكاد تنسحب على أغلب القطاعات التي تدار بعقلية "الأكشاك" في غياب رؤية مستقبلية واضحة أو مشروع وطني يعيد للتونسيين بعض الثقة المطلوبة لتفادي الأسوأ.. لسنا نبالغ إذا اعتبرنا أن ما عاش على وقعه التونسيون خلال الأيام القليلة الماضية عزز كل ما من شأنه أن يدعو للعزوف والنقمة على النخبة السياسية التي كشفت عن وجهها الحقيقي وأسقطت بقية من أقنعة كانت تستر مساوئها وجحودها ومحدوديتها ولكن وهذا الأخطر تنافسها على كل ما يتعارض ومصلحة البلاد وتماسكها كلما تعلق الأمر بالمصلحة الوطنية وهنا الأخطر... الغموض والإحباط سيد المشهد في البلاد ولا أحد اليوم يمكنه معرفة ما ينتظر حكومة يوسف الشاهد وهل ستنتهي الأزمة بين القصبة وشارع محمد علي بتحوير جزئي أو كلي للحكومة تهدئة للخواطر بما يمكن أن يمهد الطريق إلى الانتخابات البلدية خلال أسابيع.. لم تعد المسألة تتوقف عند حجم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وانهيار الدينار وارتفاع الديون التي حولت البلاد إلى رهينة للخارج على مدى عقود طويلة فقد باتت هذه العناوين معلومة للرأي العام الذي أنهكته لغة الأرقام والإحصائيات واستطلاعات الرأي التي لا يمكنها أن تملأ جيوبه الفارغة، الأخطر اليوم يتعلق بأجيال المستقبل وما إذا كان صناع القرار في هذا البلد إن كان فيه للقرار صناع وموقع يريدون جيلا راقيا متعلما مواكبا لعصره مؤمنا بتونس الولادة أم يريدون جيشا من المتخلفين والمتواكلين والعاجزين عن تقرير المصير.. ومن هنا نعود إلى نقطة البداية وما يتطلع إليه رئيس الدولة في العشرين شهرا المتبقية من عهدته الرئاسية وما لم يكشفه حتى الآن.. والأكيد أن السيد الباجي قائد السبسي يدرك جيدا أن الأمر لا يتعلق بترشحه من عدمه فتلك مسألة يحسمها الناخبون التونسيون الذين اكتسبوا من الخبرة ما يكفي وسيكون بإمكانهم، عندما يحين موعد الانتخابات، الاختيار بين البذرة الجيدة من عدمها.. الأهم اليوم أي جيل نريد وأية مدرسة نريد وأي مستقبل نريد وما تحتاجه البلاد من أولويات لم يعد بالإمكان تجاهله لاستعادة البوصلة وإنقاذ المركبة المترنحة؟ ..