إيران الحاضر الغائب وسوريا التي قسمت ظهر العرب لا تزال محل اختلافات ومساومات ومزايدات العرب المجتمعين على عجل في قمة الظهران التي ستسجل كسابقاتها تفاقم العجز العربي وفشل الجامعة العربية في الانتصار لقضايا باتت مزمنة وتوشك أن تدفع بالمنطقة الى ما لا يمكن لأمهر الخبراء توقعه. صحيح أن القمة العربية التاسعة والعشرين أعادت بعض الاعتبار للقضية الفلسطينية ومنحتها الاولوية في قائمة البنود التي تضمنها بيانها الختامي ولكن المشهد يظل منذرا بمزيد المآسي في حال استمر تغليب الحلول السياسية للازمات الحارقة... وحتى لا نتهم بالعدمية وبإنكار حزمة المساعدات التي أقرتها القمة (200 مليون دولار للأوقاف وجهود الاغاثة الفلسطينية) فان الارجح أن ملامسة القاع ليس بالأمر البعيد.. أول الملاحظات التي يتعين التوقف عندها بعد أن أسدل الستار عن القمة العربية المنعقدة بالظهران شرقي السعودية جاءت من حكومة الاحتلال الاسرائيلية التي أعلنت عزل القدس واغلاقها ثلاثة أيام متتالية وذلك قبل حتى أن يجف الحبر الذي دون به البيان... خطوة مدروسة ورسالة لا نخالها تخفى على مراقب.. ولاشك أنه رد أرادت من خلاله حكومة ناتنياهو اعلان رفضها لما تضمنه البيان من تأكيد على رفض اعلان قرار ترامب نقل السفارة الامريكية من تل ابيب الى القدسالمحتلة والاستعداد لإعلانها عاصمة أبدية لإسرائيل في 15 ماي القادم .. «قمة القدس»، الشعار الذي انعقدت في ظله القمة العربية أول أمس بعد ساعات فقط على مشاركة واشنطن ولندن وباريس في عدوانها الثلاثي على مواقع سورية بدعوى استعمال النظام السوري السلاح الكيمائي، «عدوان» لن يجد الاجماع العربي لإدانته صراحة من طرف القمة المنعقدة بحضور ستة عشر من القادة العرب. وحسبما تسرب من اخبار الكواليس، فان القمة لم تخل من انقسامات، ويبدو أن الدول المغاربية ومعها مصر والاردن ولبنان والعراق اتجهت الى رفض وادانة الهجمات العسكرية على سوريا فيما رحبت دول الخليج بالعملية. وللعام السادس على التوالي ظل المقعد السوري شاغرا بما يعني فشل مساعي الامين العام للجامعة العربية أحمد ابو الغيط قبل القمة بعودة سوريا اليها... سوريا لم تكن الغائب الوحيد، فقد غاب أمير قطر بما يعني أن الازمة الخليجية ليست قريبة من نهايتها وأن الحصار المفروض على الدوحة سيستمر في ظل تفاقم الخلافات والصراعات في صفوف مجلس التعاون الخليجي.. ولكن ستكون طهران الحاضر الغائب في قمة الظهران التي كان يفترض أن تعقد في الرياض ثم في الدمام لينتهي بها الامر الى هذه المدينة الواقعة شرقي المملكة، وربما تكون صواريخ الحوثيين وراء عدم الحسم في تحديد مقر انعقاد القمة حتى الساعات الأخيرة، ولكنها ستوجه أصابع الاتهام للنظام الايراني في زعزعة امن واستقرار المنطقة وتفاقم الازمة في اليمن وغياب الحل في سوريا... طبعا سيكون من السذاجة تحميل القمة أكثر مما تحتمل في ظل ما تشهده منطقة الشرق الاوسط من صراعات دموية ومن تدخل للقوى الاقليمية والدولية وانتشار للجماعات والحركات الارهابية المسلحة، وهي تظل لقاء بروتوكوليا سنويا يجمع القادة العرب للتداول على المنبر والقاء رؤيتهم للقضايا والازمات العالقة، ولكن دون أهداف أو استراتيجيات مشتركة كفيلة بتقليل عبء الازمات أو الصراعات والمآسي التي تتحمل تداعياتها الخطيرة شعوب المنطقة، التي تجد نفسها رهينة بين مطرقة القتل اليومي الممنهج وسندان الخراب والجوع والتشرد والضياع. لاشك أن بيان «قمة القدس « أعاد أولوية الاهتمام للقضية الفلسطينية وعاد للتذكير بقرارات قمة بيروت في 2002 ومبادرة السلام العربية التي كانت السعودية تقدمت بها آنذاك ولم تحظ بالدعم امام سياسية المكيالين والدعم الامريكي اللامحدود للإدارات الامريكية المتعاقبة للاحتلال الاسرائيلي. ويبدو أن الرياض أدركت أنه لا بد للقمة التي تحتضنها من رد صريح على قرار الرئيس الامريكي دونالد ترامب بشأن القدس لا سيما بعد تصريحات ولي العهد الامير محمد بن سلمان خلال زيارته الى امريكا قبل أسبوعين. ومن هنا أيضا اعلان بيان الظهران رفض قرارات الرئيس الامريكي والاعلان عن دعم مالي للسلطة الفلسطينية ولوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) بمائتي مليون دولار بعد حجب الادارة الامريكية مساعداتها للفلسطينيين. وهي مساعدات لا يمكن انكار دورها في تغطية جزء من احتياجات الفلسطينيين لمواصلة الصمود في القدس وفي مخيمات اللاجئين... ولكن الحقيقة أن الاختبار الاهم الذي ينتظر بيان الظهران ستتضح نتائجه خلال أسابيع معدودة عندما يتجه ترامب الى اسرائيل لمواكبة فعاليات نقل سفارة بلاده الى القدسالمحتلة في ذكرى النكبة وتجاهل موقف الحليف السعودي ومعه بقية الاطراف العربية التي لا تختلف عندما يتعلق الامر بدعم القضية الفلسطينية حتى وان كان دعما لا يتجاوز حدود التضامن المعنوي والانضواء تحت راية الشرعية الدولية وقانون العدالة الدولية العرجاء.. والتأكيد على أولوية القضية الفلسطينية فرضته الاحداث.. وقد لا يستسيغ البعض الامر، ولكن هناك قناعة اليوم بأن القضية الفلسطينية وملف القدس أنقذ القمة وليس العكس. وقد منحت القضية الفلسطينية القادة المجتمعين فرصة اخفاء الخيبات والإخلالات والتغطية على المآسي المستمرة على تخوم المملكة سواء في النزيف اليمني المستمر وما بات عليه «اليمن السعيد» من دمار وخراب وشقاء وأوبئة، أو كذلك في المشهد العبثي السوري حيث تحولت بلاد الشام الى مخبر مفتوح لأحدث أنواع الاسلحة المستوردة من مصانع الغرب، بين القوى الدولية المتنافسة على المواقع الاستراتيجية السورية، وبين الحركات المسلحة والشبكات الارهابية التي استباحت العراق قبل أن تنتقل الى سوريا وتتمدد في أكثر من منطقة.. الضربة العسكرية أوّلا والتحقيق لاحقا.. سوريا تحتاج نحو 400 مليار دولار على الاقل لإعادة اعمار ما تهدم. أما ما تحتاجه لإعادة بناء المجتمع ورسكلة النفوس وبلسمة الجروح وعلاج المصابين والمعاقين فتلك مسألة مستعصية حتى على أمهر الخبراء. ولعل من المهازل التي سترتبط بالعدوان على سوريا الذي استبق «قمة القدس» أن يأتي الاعلان عن اجتماع فريق المحققين الدوليين في دوما لبحث مسألة تورط النظام في استعمال الاسلحة الكيميائية ضد الشعب السوري بعد التحرك الفرنسي الامريكي البريطاني.. من الظهران إلى تونس.. وفي انتظار الموعد القادم للقمة العربية خلال عام والتي ستعقد في تونس بعد رفض البحرين احتضانها.. وبعيدا عن استباق الاحداث، فإن ما قيل في قمة الظهران وما قبلها في عمان قد يقال في قمة تونس بعد عام وفي كل قمة عربية قادمة طالما استمر تأجيل الملفات الحارقة وتعمق ضعف وهشاشة الموقف العربي المتردي.. اثنا عشر شهرا تسبق الموعد القادم في تونس.. قد تبدو فترة طويلة ولكنها قصيرة جدا بالنظر الى الازمات المعقدة وما تستوجبه من ديبلوماسية ومن قدرة على التفاوض والبحث عن الحلول السلمية للقضايا الراهنة وتجنيب الشعوب مزيد المآسي.. ولعله من المهم الاشارة الى ما سجله موقف تونس خلال القمة، ولو سلمنا بأنه لم يكن بالإمكان أفضل مما كان. فقد وجب الاشارة الى أن كلمة الرئيس الباجي قائد السبسي في قمة الظهران ظلت وفية للديبلوماسية التونسية الهادئة ووضعت الاصبع على مختلف الازمات والقضايا التي تعصف بالمنطقة. وقد اعتبر السبسي أن «الارتباك والفشل في تطويق ومعالجة الازمات فاقم المخاطر».. وربما كان صريحا فيما ذهب اليه بشأن المشهد السوري، ولكنه لم يذهب بعيدا الى حد الاعتراف بفشل الدور العربي وتحديدا جامعة الدول العربية في استباق الاحداث والاستفادة من الدرس العراقي... الاكيد أن السنة القادمة لن تكون خالية من الصعاب والتحديات في تونس التي ستكون على مواعيد انتخابية مصيرية، وفي المنطقة حيث الازمة الليبية تبقى عالقة، وفي منطقة الشرق الاوسط حيث يستمر النزيف.. والاكيد أن تونس يتعين عليها المبادرة الى احياء دور ومكانة الاتحاد المغاربي الذي يمكن ان يكون الحصن والملاذ شعوب المنطقة في وجه الصراعات الراهنة وربما غيرها من الصراعات المرتقبة مع استمرار موسم السقوط الى الهاوية ..