منذ إطلاق رئيس الجمهورية لفكرة تعديل وثيقة قرطاج التي انبثقت عنها حكومة يوسف الشاهد الأولى في صائفة 2016، ودعوته لرؤساء الأحزاب والمنظمات الوطنية الموقعة عليها إلى إعادة الجلوس والتفاوض وتعديل محاور الوثيقة ومزيد ضبط أهدافها وتصويبها على ضوء المستجدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة.. كان الطلب الأبرز والملح لجل المعنيين بالوثيقة إسقاط حكومة الشاهد مع شبه إجماع على فشلها. لكن بمرور الوقت تغيرت الانتظارات وتبدلت المواقف مع تغير الوقائع.. فلم لم يعد السؤال المهم اليوم هل أن الشاهد باق او غير باق؟، بل الأصح: ماهي مهمة حكومة الشاهد 3 المقبلة؟ كان قائد السبسي -حكم اللعبة والمتحكم في خيوطها- مدركا منذ البداية بأن الفائدة حاصلة لا محالة بمجرد نجاحه في جمع رؤساء الأحزاب والمنظمات الوطنية على طاولة المفاوضات (رغم انسحاب غير مؤثر لبعض الأحزاب على غرار الجمهوري وآفاق..) بتحقيق على الأقل استقرار سياسي ولو مؤقت للشاهد وحكومته وإعطائها فسحة أمل لتتنفس الصعداء ولو إلى حين.. وأعطى قائد السبسي لنفسه ولشركائه السياسيين والأطراف الاجتماعية مخارج للأزمة القائمة ترضي الجميع وتحفظ ماء الوجه ووفر لهم وعاء لامتصاص غضب شعبي مطرد من غلاء معيشة لا ينتهي، وغضب رجال أعمال ومؤسسات من ضغوطات جبائية وتعطل مصالح مالية واقتصادية، وغضب نخبة سياسية انتهازية تريد مكانا لها تحت الشمس.. وقد أعطت هذه الفسحة نتائجها بعد الانتخابات البلدية.. خيارات محدودة مهما يكن من أمر لم يكن أمام رئيس الجهورية خيارات عديدة لتطويق الخلافات بين الفرقاء السياسيين ( النهضة – النداء) والأطراف الاجتماعية (اتحاد الشغل، الأعراف) فإما التضحية بالحكومة الحالية وبيوسف الشاهد، (قبل الانتخابات البلدية كان قيادات ندائية تطالب بتغيير جذري للحكومة قبل تغيير موقفها حاليا) أو الاكتفاء بتعديل تركيبة الحكومة مع الابقاء على الشاهد في خطة رئيس الحكومة شرط تحجيم طموحاته السياسية وتحديد دوره بدقة في الفترة المقبلة. (النهضة طالبت بتغيير جزئي مع الابقاء على الشاهد). فوجهات النظر والمواقف كانت متباعدة ومتناقضة وأحيانا يلفها اللبس والغموض.. قبل شهرين كان الوضع السياسي والاجتماعي محتقن للغاية وتزامن خاصة مع أزمة الثانوي التي كادت أن تنفجر في وجه الجميع، وكان الوضع الاقتصادي منذ بداية السنة في وضع حالك ضبابي غير مستقر ينبئ بالأسوإ.. فالدينار واصل انحداره، ومدخرات العملة في أسوإ مؤشراتها منذ عقود طويلة، والعجز التجاري بين، ونسبة التضخم في صعود مخيف مقترنة بارتفاع الأسعار.. لتطفو حينها على وقع الأحداث ضغوطات صندوق النقد الدولي على الحكومة التونسية وبداية الحديث عن شروط واملاءات وإصلاحات موجعة من بينها الدفع بإمكانية التفويت في مؤسسات عمومية تشكو من عجز مالي مزمن، او إعادة هيكلة البعض الآخر، او التلويح بإمكانية تجميد الزيادة في الأجور.. كان من نتائجها غضب متوقع من اتحاد الشغل وهو الذي كان من أبرز داعميها وهدد بالانسحاب من وثيقة قرطاج مطالبا بتغيير جذري في الحكومة وبربان جديد يقود الحكومة وفق تفاهمات جديدة.. واقعيا، ربما تتوج اليوم المفاوضات التي عهد إلى جانب كبير منها إلى خبراء الأطراف السياسية والاجتماعية بالتوقيع على وثيقة قرطاج 2 على مستوى الخبراء. لكن يظل المسار السياسي – الوجه الآخر لوثيقة قرطاج- مفتوح للتفاوض والحسم سيكون طبعا خلال اجتماع لجنة الرؤساء التي يشرف عليها رئيس الجمهورية، والاجتماع المرتقب سيكون ليس للتفاوض بقدر ما سيكون وضع النقاط على الحروف واعلان التوجه الجديد للحكومة شكلها مهامها.. ومعلوم أن الوثيقة تحتوي على أهداف اقتصادية واجتماعية ستلتزم بتنفيذها الحكومة المقبلة على مدى الفترة المتبقية قبل انتخابات 2019 أي خلال فترة لا تتجاوز 15 شهرا وربما أقل من ذلك بكثير.. في انتظار الحسم السياسي.. مؤشرات كثيرة تجعلنا نعتقد أن الخلاف حول المحور السياسي المتعلق خاصة بمصير الحكومة الحالية والشاهد نفسه ومهمة الحكومة المقبلة وتركيبتها ووضعها السياسي قد تم حسمها من خلال المشاورات السياسية العلنية منها والخفية التي قام بها رئيس الدولة خلال الفتة الحالية وبالتوزاي مع اجتماعات لجنة الخبراء، وتنتظر الإعلان المناسب، وقد يتم ذلك في غضون الأيام المقبلة حين يتم رسميا الدعوة إلى اجتماع لجنة الرؤساء. وذلك للأسباب التالية: -حصول تنازلات متبادلة من هذا الطرف او ذاك سياسيا او اجتماعيا عجّل بإتمام وثيقة قرطاج 2 في جانبيها الاقتصادي والاجتماعي باعتبار أن معظم الترضيات مرت عبر هذين المحورين في انتظار الترضيات في الملف السياسي.. -انحسار الداعين من الموقعين على وثيقة قرطاج ومن بينها اتحاد الشغل ونداء تونس إلى تغيير يوسف الشاهد. مع تمسك الاتحاد بتحوير كبير وعميق في الحكومة. -نتائج الانتخابات البلدية أبقت على المشهد السياسي كما هو فلم ترجح كفة أي من الحزبين الكبيرين وهذه النتائج أثرت على حسم النقاط الخلافية في اتفاقية قرطاج. -تغيّر لهجة قياديي اتحاد الشغل بعد موجة الضغط التي مارسها الاتحاد لتمرير رسائله وشروطه للبقاء ضمن وثيقة قرطاج، ويبدو أن الاتحاد قد ضمن الخروج بوجه مشرّف من المفاوضات الجارية وكسب نقاطا تحسب له مثل فرضه لنقطة مهمة في الاتفاق المرتقب تنص على وجوب التزام الحكومة المقبلة بتنفيذ الاتفاقيات المبرمة. كما ضمن نقاطا أخرى في علاقة بملف المؤسسات العمومية (التراجع عن نية التفويت والتوجه نحو إعادة الهيكلة) والإسراع بإتمام المفاوضات الاجتماعية وتركيز مجلس الحوار الاجتماعي.. هنا نستحضر دور رئيس الجمهورية في أزمة الثانوي حين تدخل بين الاتحاد والحكومة ووعد بمخرج يرضي الاتحاد ويضمن مطالب المربين.. -تصريحات لافتة ومهمة للأمين العام المساعد بوعلي المباركي في مناسبتين اولى في حوار صحفي أكد فيه أن «كل شيء وارد ان لم تستجب وثيقة قرطاج لتصوراتنا» بمعنى أن موقف الاتحاد من الانسحاب من الوثيقة من عدمه مرتهن بالاتفاق على ما ستلتزم به الحكومة المقبلة لتنفيذ بنود الوثيقة. ثم تصريح آخر أمس بقوله ان اجتماع الرؤساء الذي لم يحدد بعد سيحسم مسألة هيكلة الحكومة وبقائها ومن سيتولى تطبيق الاتفاق الجديد، مشيرا إلى وجود بند طالبت به الأحزاب المشاركة في الحوار يدعو الحكومة الى التفرغ لإنجاح المرحلة المقبلة دون ان تكون معنية بالانتخابات المقبلة في سنة 2019 مع احترام حق الجميع في الترشح. -هذا الشرط - أي الالتزام بحيادية الحكومة في الانتخابات المقبلة- ( وربما التزام الشاهد بعدم الترشح لرئاسة الجمهورية) إن قبل به يوسف الشاهد مع التزام تنفيذ مضمون اتفاقية قرطاج 2، قد ينتج عنه بقاء الشاهد لقيادة الحكومة الجديدة وبالتالي سيكون أبرز محدد للأسماء المرشحة لتولي مناصب وزراية جديدة.. -تغير مطالب حركة نداء تونس من المناداة بتغيير جذري للحكومة إلى تحوير جزئي وهنا تتقاطع الحركة مع مطالب حركة النهضة.. فالأسبوع الماضي وبداية هذا الأسبوع كانت زاخرة بالتصريحات الصادرة عن قياديين في النداء ونواب ندائيين يساندون الشاهد ويؤكدون أن باق على رأس الحكومة (وليد جلاد، محمد الراشدي، لطفي النابلي..) - مناورات يوسف الشاهد وتحركه اللافت في الفترة الأخيرة يؤكد انه ما يزال فاعلا في اللعبة السياسية وهو الذي أخفى أوراقه للجولة الأخيرة. من خلال استغلال مؤشرات اقتصادية ايجابية وتسويقها لمصلحته (نمو اقتصادي، ارتفاع الصادرات، تحرك لتطويق موجة ارتفاع الأسعار..) أتت في وقتها وأعطت حجة داعمة للشاهد وحكومته او جزء منها للبقاء.. -اجتماع الشاهد بسفراء الدول المتقدمة الكبرى وسفير الاتحاد الأوربي والذي أعقبه تصريح سفير فرنسا اكد فيه دعم بلاده لحكومة الشاهد.. يؤكد ان الشاهد ما يزال يرغب في البقاء، بل أكثر من ذلك لن تكون عملية إقالته من منصبه بالهينة بالنظر إلى أنه لن يقبل بالتنحي والاستقالة بل سيسعى إلى ضمان حقه الدستوري في اللجوء إلى مجلس النواب مثل ما فعله سلفه الحبيب الصيد.. -إمكانية رحيل الشاهد وتغيير الحكومة برمتها بات خيارا صعبا بالنظر إلى قصر المدة التي وضعت لتطبيق بنود اتفاقية قرطاج 2، وقصر عمر الحكومة المقبلة في صورة اعادة تشكيلها (تنتهي مهامها في اكتوبر 2019) فضلا عن الوقت الضائع المفترض لإعادة تشكيل الحكومة برمتها في صورة المرور عبر المسالك الدستورية (تطبيق الدستور) والسياسية (مفاوضات تشكيل الحكومة واختيار الوزراء..) - في انتظار استكمال «هندسة» اللمسات الأخيرة للوضع السياسي للحكومة المقبلة تفيد المعطيات المتوفرة بأن الحكومة المقبلة سيكون دورها لا فقط تأمين تطبيق بنود واضحة وصريحة ومحددة لوثيقة قرطاج والتي باتت مكشوفة ومعروفة للعلن، أساسا تلك المتعلقة بالجانب الاجتماعي ومالية جبائية بل أيضا تأمين الاستعداد الجيد و»المحايد» للانتخابات التشريعية والرئاسية 2019.