مضى على الانتخابات البلدية أقل من شهر، و هي الانتخابات المحلية الأولى التي تنجز بعد الثورة كانتخابات حرة و نزيهة جرت في مناخ من التعددية و غير مسبوق، باستثناء بعض الحالات النادرة والمحدودة. لقد كانت هذه الانتخابات على غرار الانتخابات التشريعية والرئاسية تخاض منذ الاستقلال وحتى قيام الثورة في مناخ من الأحادية و التسلّط، حتى كادت أن تكون أشبه بتزكية يستحوذ بمقتضاها الحزب الحاكم على كل مقدرات البلاد، بما يتيح له احكام قبضته على المجال الوطني ووضعه تحت السيطرة ضمن منظور مركزي مفرط ينتهي في نهاية الامر الى اعادة انتاج التسلط و التغلغل في جميع خلايا النسيج الاجتماعي و السياسي. و قد كانت البلديات في تلك الفترة مجالا لصناعة نخب الموالاة و «تجديد البيعة» و الضامن الأساسي لسيطرة الحزب الحاكم على المجال المحلي. ما يمنح الانتخابات البلدية لسنة 2018 مذاقا خاصا _ يتجاوز طبعا مناخ الحرية و التعددية التي جرت فيه الانتخابات _ هي الفلسفة الجديدة التي تنهض عليها. لقد خص دستور البلاد الجديد في باب بأكمله للسلطة المحلية و اعتبرها ركنا من أركان الديمقراطية التي لا تترسخ إلا إذا قلصنا تلك المركزية المفرطة التي كانت تلحق البلديات و الجهات الى المركز و تجعلها سخرة له . كانت الانتخابات تحتاج حتى يصبح لها معنى دستور محلي فكان لها ذلك. فلقد تم اصدار مجلة الجماعات المحلية قبل الانتخابات بقليل حرصا على رغبة الجميع في تجاوز غيوم الماضي الذي كبل البلديات و جعلها»وكالة «خدمات فاقدة لروح المشاركة المواطنية. لم يكن من السهل تجاوز الايدولوجيا و السياسة من الحملة الانتخابية البلدية رغم ان مهام البلدية بعيدة عن هذا الامر، ذلك ان السياق ما زال سياسيا بامتياز فالبلاد لا زالت تطوي سنتها السابعة من انتقالها الديمقراطي المتعثر، مما يجعل هذه الانتخابات إحدى ركائز الانتقال الديمقراطي. فقد تُمكّن في حال نجاحها من ترسيخ الديموقراطية و بثها في مجالات القرب، و جعلها شأنا محليا يتيح إدارة الاحياء و الفضاءات و الممتلكات العمومية و الخدمات على قاعدة المشاركة الجماعية ضمن قواعد الشفافية و النزاهة . لذلك يحتاج الانتقال الديمقراطى على المستوى البيداغوجي أن يعمم على المدن و القرى و الاحياء حتى يصبح مدرسة المواطنة و الديموقراطية المفتوحة و المباشرة. ففي تونس الأعماق و الدواخل ما زالت ثقافة التسلط و الاستبداد متلبسة بإدارة الشأن العام رغم بعض النجاحات المحدودة لتجارب النيابات الخصوصية. هل من فائز؟ بالأكيد سيبدو أن الفائز الأول هو تونس بمواطنيها و أحزابها ونخبها ومستقليها بقطع النظر عما كان له قصب السبق فيها . ومع ذلك علينا أن نظيف أيضا أن هذه الانتخابات كانت دالة على أكثر من صعيد، خصوصا في ظل مناخ انتخابي كان متوترا ومشحونا، إذ جرت هذه الأخيرة في ظل حركات احتجاجية متصاعدة و موجة حادة من الإضرابات خصوصا في قطاع التعليم، وعلى وقع إضرابات نقابية حادة فضلا عن تلميحات بتغيير حكومي قادم في الأفق. ربما كان خيال ،قسط هام من التونسيين خارج الصندوق إبان الانتخابات، مشدودا إلى قوتهم اليومي العسير تحصيله و دوائهم المفقود و أجورهم التي لم تعد تفي بالحاجة و جراياتهم التي لم تصرف و أبنائهم العاطلين عن العمل الفاقدين للحلم أصلا . قد يكون ذلك بعض فرضيات هذا العزوف الكبير عنها، و لكن ليس العزوف وحده أبرز ما يسترعي انتباهنا. ففي ظل هذا العزوف الذي طال شرائح عمرية عديدة قد يكون الشباب على رأسها، كان الصعود اللافت للمستقلين، الذين استغلوا بلا شك النفور من الأحزاب و الطبقة السياسية عامة التي تشكلت به الثورة، مثيرا للانتباه. استفاد المستقلون بلا شك من المرونة التي منحها إياهم القانون الانتخابي و اعفاهم من ضغوطات تقع تحتها القائمات الحزبية ( التناصف العمودي و الأفقي ) ليتقدموا بثقلهم، حتى فازوا بالمرتبة الأولى من حيث الأصوات ( في حين حازت النهضة على المرتبة الأولى من حيث عدد المقاعد ...). اقترن هذا الصعود بتراجع محير للقواعد الانتخابية لكل من النهضة و النداء والجبهة الشعبية، و ذلك على خلاف التيار الديمقراطي الذي كان مفاجأة الانتخابات، إذا ما نظرنا إليها من زاوية الأحزاب مستفيدا من صورته النضالية التي بناها على قاعدة رمزية مكافحة الفساد تحديدا، ذلك الخطاب الذي لا زال يجد صداه لدى قطاع مهم من الرأي العام الوطني، في ظل تردد محير للحكومة في استكمال ما وصفته لاحقا بالحرب على الفساد التي أطلقها السيد رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد. كل طرف رأى ما يشتهي في مرآة الانتخابات، غير أنها مرآة متحايلة تمحو العيوب و لكنها تضخم مقابل ذلك المحاسن. فاستمعنا الى قراءات غربية أحيانا، خصوصا وان الأحزاب لم تطور بعد ثقافة النقد الذاتي داخلها، و ربما كانت الانتخابات القادمة 2019 هي التي تجيز قراءة سعيدة للانتخابات المحلية حتى ولو كانت مظللة. الانتخابات البلدية 2018 بقطع النظر عن آثارها المباشرة المنتظرة على حياة الموطنين بشكل محسوس قد تكون لدى البعض «بروفة « لقادم المحطات الانتخابية القادمة. سيسارع الفائزون و «الخاسرون «الى القيام بإجراءات تصحيحية و تعديلية ضمن ما تتيحه «حصص التدارك.» * مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. تونس