يشكّل الانخراط في الحداثة والسعي إليها عبر سياسات التحديث منذ عقود قاسما جامعا بين مختلف الأطراف والتيارات المنادية بالتنمية والتقدّم الاجتماعي وتجسيد حقوق وواجبات المواطنة واحترام الحريات بدءا بالتكتل الدستوري ومن يعتبرون أنفسهم امتدادا له، مرورا بالأطراف الديموقراطية والاجتماعية الوسطية وانتهاءا باليسار الماركسي. بيد أن هذا المعجم المشترك والذي شارك فيه إسلاميو النهضة منذ منعطف الثمانينات بل أصبحوا يعتبرونه جزءا من مشروعهم المجتمعي إنما يخفي وجود خط تباين رفيع أو سميك حسب المواضع، بين رؤيتين: الأولى تتبنى منظومة القيم وأنماط الحياة التي أفرزها الغرب الحديث دون قيد ولا شرط كما تجعل من الحرية الفردية أقدس الأقداس وفوق أي اعتبار، ولنسمّها حداثوية بسبب إسرافها، أما الثانية فهي حداثية بدورها أو مؤمنة بالضرورة الحيوية للانخراط في الحداثة ولكن بمنظور نقدي واحترازات حول تأويل وتجسيم عدد من المبادئ الغربية المأتى. وتعود صعوبة التمييز بين الرؤيتين والموقفين وبالتالي الكتلتين الحاملتين لهما إلى سياقات تاريخية مرت بها تونس بدءا من الاستقطاب الإيديولوجي الحاد الذي دفع إليه نظام بن علي بين الإسلاميين والعلمانيين واستطاع أن يجرّ إليه الأغلبية الساحقة من مكوّنات المعارضة باستثناء قلّة في مقدمتها الحزب الديموقراطي التقدمي. وفي لحظة ثانية أدّت تجاذبات فترة حكم الترويكا إلى عودة الاستقطاب والى الخلط بين الخلاف السياسي والتموقع الثقافي والإيديولوجي حتى أن هذا الأخير غطى على الخلافات في صفوف كل من الإسلاميين والحداثيين. وقد شهدنا قبيل الانتخابات البلدية محاولات جديدة للعب على نفس الوتر من طرف بعض قياديي نداء تونس، إلى جانب مناورة ضخمة تعدّ لها الدائرة المحيطة برئيس الجمهورية في نفس الاتجاه وضمن تكتيك يستهدف تكرار سيناريو الحملة الرئاسية لسنة 2014. وعليه فعندما نتحدث عن نخبة أو كتلة اجتماعية مؤدلجة، تجعل من الحداثة وثنا، سواء لعبادته أو للتلاعب به، فإننا نشير إلى وسط فكري وسياسي يتوزع اليوم من حيث انتماؤه أو ولاؤه أو صداقاته الحزبية بين ورثة التجمع الدستوري من حزب النداء وحزب مشروع تونس وأحزاب اليسار التي سبق أن تحالفت موضوعيا أو ذاتيا مع نظام بن علي لغاية محاربة ما سمّي بالظلامية ومازالت العديد من معاركها مابعد الثورة تدور في نفس الحلقة العقيمة، هذا إلى جانب عديد الجمعيات المسيّسة والتي تتبنى نفس النهج وتخلط بين مفاهيم الإسلام والحركة الإسلامية وحركة الاخوان المسلمين والحركات السلفية بل وحتى بينها وبين الإرهاب، كما تخلط بين التوجهات السياسية لحركة النهضة أو بالأحرى قيادتها المتنفذة وبين فكرها السياسي الذي ترفض إقرار بما عرفه من تطوّر وتجديد. لا يعدم هذا التكتل الإيديولوجي والثقافي اختلافات في الانحياز الاجتماعي أو الطبقي ولكنه يشترك في رؤية لمشروع تونس الحديثة تتمثل مرجعيتها في القيم المحورية للمجتمعات الغربية، كما يستنسخ أحدث الاتجاهات والنماذج الإيديولوجية الغربية، بل يزيد ويزايد عليها كما سنرى، مقابل نزع كل قيمة عن الموروث الثقافي العربي والإسلامي ووصمه بالتخلف والرجعية وحتى اللاإنسانية ومحاكمته بناءا على آخر ما وصل إليه فكر التقدم وحقوق الإنسان. وهذه ليست اتهامات نطلقها جزافا بل مواقف قد تكون صريحة وقد تأتي في شكل استعارات أو إيحاءات أو في قالب تحاليل «علمية» صدرت في السنين الأخيرة عن قياديي أحزاب وجمعيات وعن جامعيين مشهورين، وعن إعلاميين يتصدرون البلاتوهات التلفزية أو الإذاعات، وعن شعراء وروائيين أيضا، يستخلص من خطاباتهم أن الأربعة عشر قرنا التي مضت منذ ظهور الإسلام وقدومه إلى هذه الديار هي مرحلة كالحة، مرحلة نكوص أو تراجع حضاري وثقافي ومنطلق لإقامة نظام اجتماعي يقوم على اضطهاد النساء واسترقاق البشر وتحويل أهل الديانات الأخرى إلى ذميين يعيشون المهانة. صورة مؤدلجة تضخم حقائق جزئية فعلية عرفها تاريخنا لتجعل منها الحقيقة الوحيدة أو الرئيسية، مستعيدة بذلك الصورة النمطية التي شكّلها الغرب عن العرب والإسلام في سياق النزاعات التي دارت بينهما، والتي غطت بدورها على كل ما كان بينهما من معاملات مفيدة وتلاقح ثقافي وتبادل إنساني. هذه الكتلة الثقافية/الإيديولوجية بالذات هي التي تقوم اليوم، بعضها عن حسن نية وبعضها قصدا، بمبادرات من شأنها توتير المناخ الفكري والثقافي وربما السياسي. ولكن ما يهمّنا في المقام الأول هو الطرف الذي يعد لأجندة سياسية بدأت تتضح معالمها وذلك باستغلال كل من يجد من أحداث، بل بخلق الأحداث واستفزاز قسم كبير من الرأي العام، وآخر ظهورات هذا الطرف إعداده لمبادرة تشريعية جديدة حول تنظيم العلاقات بين الرجال والنساء محورها التسوية في الميراث، مبادرة تذهب إلى أبعد حدّ في تجسيد الموقف الحداثوي واستعجال تغييرات لا يوجد عليها طلب اجتماعي ذو بال، بل لا يبدو المجتمع في أغلبه متحمّسا ولا مهيأ لها كما سنحاول التدليل عليه أسفله. هل يتعلق الأمر بالإعداد لقانون يندرج فعلا في نطاق العدالة الاجتماعية بين الجنسين ويساهم في مزيد النهوض بوضع المرأة التونسية خاصة المرأة الشعبية ؟ أم بتحقيق حلم أقلية ثقافية وإيديولوجية «طلائعية» ولو كان الثمن توترات اجتماعية وسياسية ؟ أم بإضافة صورة جديدة مغرية لتونس حديثة جدا جدا، مهما كان الثمن ؟ أم بخدمة أجندة سياسية انتخابية؟ هل هو تلميع جديد للواجهة أم تحضير للمواجهة ؟ من أجل قراءة موضوعية ومسؤولة للّحظة الراهنة يكون من المفيد موضعتها ضمن المسار التحديثي الذي انخرطت فيه النخب العصرية التونسية منذ تأسيس الدولة الوطنية، مع إبراز خصوصية كل مرحلة. وفي هذا الإطار نذكر باللحظتين السابقتين من صراع ممثلي الحداثة مع خصومها المفترضين. *أستاذ باحث في علم الاجتماع