من اللافت مشاهدة عدد من السيارات على الطريق،رابضة، فيما أصحابها ملتفون حول عربة لبيع «السندويتشات» المكوّنة من البيض و»الهريسة» وشيء من «التن».. فزبائن الأكشاك المنتشرة في مفترق الطرقات السيارة، لم يعودوا، فقط ، من أصحاب الأجور الضعيفة، إذ بدأ تجمهر المارة وموظفي الشركات الخاصة ومراكز النداء وسائقي سيارات التاكسي، يأخذ مساحة كاسحة من المشاهد اليومية، التي نرصدها في طرقات العاصمة.. حتى أن بعض هذه العربات والأكشاك الكرتونية صارت مشهورة بين موظفي شركة ما ، أو مجموعة من سمّار الليل.. بدينار من مليماتنا أو بدينار ونصف يمكنك أن تتناول وجبة على قارعة الطريق مع خيارات عديدة لا تختلف في مظهرها عمّا توفره المطاعم لزبائنها وبنصف السعر تقريبا.. هي ظاهرة تشهد انتشارا واسعا في الآونة الأخيرة خاصة بعد تردي الظروف الاقتصادية لأغلب التونسيين، الذين وجدوا الحل على قارعة الطريق فيها، متناسين الخطر، الذي قد يهدد صحتهم جراء تناولهم مثل هذه المواد الغذائية المعرضة للشمس طيلة اليوم..هذه العربات والأكشاك لا تكتفي بالانتصاب في أماكن تجلب الكبار من الزبائن .فكثيرا من الأحيان نجد عربة لبيع المأكولات السريعة على مقربة من فضاء تعليمي أو ترفيهي للأطفال على غرار نوادي الترفيه الصيفية أو قاعات الرياضة كما في أغلب الشواطئ، هذا دون الحديث عن الخطر، الذي يهدد هؤلاء اليافعين قرب مدارسهم جراء هذه الظاهرة، التي ولئن تحظى بمراقبة السلطات المختصة إلا أن الباعة يجدون دوما نقطة للانتصاب لجذب الأطفال لسلعهم .. مهن وضعية ولكن التفاعل الإيجابي لجزء كبير من التونسيين مع هذه الخدمات المقدمة من طرف أكشاك «الوجبات السريعة» يدعو للتساؤل خاصة وأنهم أصبحوا من الزبائن الأوفياء لهؤلاء الباعة.. عن الانتصاب الفوضوي و»المهن الوضيعة» (كما تصنف ضمن تراتيب الشرطة البلدية) يتمحور موضوعنا، فرغم وضوح القوانين ومنعها لتواجود مثل هذه المخالفات ودعوة البعض من الفاعلين في المجتمع المدني لإزالة هذه الأكشاك المهددة للصحة والمسيئة إلى جمالية المدينة إلا أن الواقع الاجتماعي والاقتصادي في بلادنا يعكس النقيض.. «الصباح الأسبوعي» رصدت الظاهرة من خلال طرح مختلف وجهات النظر وكانت البداية مع إحدى العربات المنتصبة على مقربة من منطقة «الشرقية»..موقع استثنائي في إحدى المفترقات المرورية، يحط قربه الكثير من المارة وعابري السبيل .هذا الطريق ذو اتجاهات عدة ،ممّا لفت انتباهنا للحركية المحيطة به حيث انكبت امرأة لم تتجاوز بعد عتبة الأربعين تعد «سندويتش» لأحد زبائنها فيما زوجها بصدد فتح إحدى معلبات «الهريسة» وهو يتحدث لزبون ثان سائلا عن طلبه.. حدثتنا المرأة وتدعى «خديجة» عن ظروف الحياة الصعبة ومشقة إيجاد عمل يعينها على إعالة أبنائها نافية أن تكون «وجباتها» غير صحية وهي تردد «انظري كل شي جديد ولا نستخدم بقايا اليوم السابق وزبائننا راضون عمّا نقدمه من وجبات».. وبعد أن أنهت إعداد طلب زبونها وابتسامة متعبة تعلو محياها ، عادت تحدثنا عن الأسباب التي اضطرتها وزوجها للتنقل من طريق إلى آخر مكررة ذات العبارات وكأنها تبحث عن مواساة وأمل طال انتظاره قائلة: «لم نختر هذه الحياة لكن وضعنا الاقتصادي أًصبح صعبا بعد مرض زوجي» .. مع هذه العبارات تدخل زوج خديجة صاحب العربة المجرورة المتاخمة لحائط تغطيه لافتات من «كرتون» تحمل علامة «مشروب غازي» وتحيط بجانبي العربة ..تحدث «محمد» وبعض الغضب يلوّن وجه المسمرّ بفعل الوقوف طويلا تحت الشمس:» ماذا نفعل لكي نعيش في هذه البلاد؟ هل نسرق أم نبيع الممنوعات؟..نستيقظ كل يوم من الخامسة صباحا حتى نوفر طعام أطفالنا ومع ذلك نعامل كالخارجين على القانون من قبل أعوان الشرطة البلدية .هذه حالنا وليس لنا مورد رزق آخر.. أدرك أن «كشكي» يعتبر انتصابا فوضويا لكن لا مفر من ممارستي هذا العمل بمساعدة زوجتي فمرضي يمنعني من العمل في الحضائر أو ممارسة مهن شاقة بدنيا.» الشبع بأيسر الأسعار. على مقربة من كشك «محمد وخديجة»، اتكأ شاب على إحدى الشجرات حاملا بيد قارورة مشروب غازي وباليد الأخرى «سندويش» مستمتعا بغذائه في الهواء الطلق..يقول «فؤاد» وهو أحد موظفي مراكز النداء أن الأكشاك والعربات المجرورة تقدم «سندويتشات» تماثل جودة مطاعم «الوجبات السريعة» مع سعر أقل كما أن الخدمة أسرع فلا يضطر وهو يعمل في منطقة «الشرقية» إلى البحث عن مكان في زحمة المطاعم والانتظار طويلا لينال مقعدا و»سندويتش» وتذهب فترة استراحته سدى..ويضيف محدثنا قائلا: «لا أجد اختلافا كبيرا بين خدمات العربات والأكشاك وبين المطاعم وإن تحدثنا عن الغش وإمكانية أن يكون الأكل مهددا للصحة فهذه الحوادث يمكن أن تقع حتى في أرقى المطاعم والفنادق وشخصيا حين أعود مساء إلى بيتي أو في العطل الأسبوعية أحرص على تناول وجبة «دياري» كما أراقب كل ما أكله في الشارع وهذه ظروف الحياة وعلينا التأقلم مع مستجداتها واليوم الكثير من الخدمات فاقت أسعارها المعقول في بلادنا.» . أمّا «لطيفة» وهي سيدة في نهاية الأربعينيات من العمر تعمل عون تنظيف بشركة، تقول ان مرورها على العربات المجرورة لشراء غذائها أصبح عادة يومية خاصة وأنها لا تجد من الوقت الكثير لإعداد بعض الطعام قبل التحاقها بعملها في الصباح الباكر فالمسافة الطويلة بين بيتها ومقر عملها وتعدد وسائل النقل، التي تستخدمها كل صباح وارتفاع أسعار المواد الغذائية في الفضاءات التجارية والغلاء المشط للمطاعم المحاذية لمقر عملها تجبرها على التوجه إلى أقرب كشك أو عربة للبيض وسندويتشات «الهريسة والتن». وأضافت محدثتنا أنها لا تخشى من التسمم لأنها تدرك الجيد من المضر بصحتها فهي ربة منزل قبل أن تضطرها الظروف للعمل في مهنتها الشاقة والتي تفرض عليها العمل ساعات طويلة لا تتخللها إلا استراحة ساعة الغذاء. في المقابل يرفض «رأفت» وجود مثل هذه العربات والأكشاك لبيع الوجبات في الشارع موضحا أن وجودها يضر بالمواطن وأن ما تقدمه من خدمات مخالف لكل القواعد الصحية والقانونية ونفى محدثنا أن يكون قوله المناهض لمثل هذه الممارسات يعود لمنافسة هذه العربات للمطعم، الذي يعمل به أو لغيره من المطاعم وإنمّا لقناعته بأن المنتوجات الغذائية لا يمكن أن تباع وتقدم لمستهلكيها «تحت الشمس» فلو كان مثل هذا السلوك لا يؤثر سلبا على المواطن لا عمل الجميع في عربات مجرورة وما اضطروا لفتح مطاعم..». رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك ل«الصباح الأسبوعي»: حالات تسمم يومية ومن الضروري محاربة هذه الظاهرة ندد رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك سليم سعد الله بظاهرة «النصب» المختصة في بيع الأكل على قارعة الطريق والتي لا تلتزم بالشروط الصحية قائلا: «الخطير في المسألة أن ظروف التونسي الاقتصادية تجعله يقبل على مثل هذه العربات لشراء «كسكروت» بدينار عوض ثلاثة دنانير ونصف دون أن يهتم إذا كان «المرقاز المشوي» قد يتسبب في تسممه». وأضاف محدثنا في هذا الإطار، أن المستشفيات التونسية تستقبل حالات تسمم يومية جراء هذه الظاهرة خاصة في صفوف ضعاف الحال والأطفال. وشدد رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك على ضرورة محاربة هذه الظاهرة فكيف في سنة 2018 مازالت هذه العربات بأوساخها تنتقل من مكان إلى آخر تبيع «سموما» في ظاهرها وجبات غذائية سريعة والمواطن يقبل على شرائها حتى يشبع بأرخص الأثمان وبالتالي علينا كمجتمع مدني العمل أكثر على توعية التونسيين في هذا الخصوص. الكاتب العام للنقابة العامّة لموظفي الشرطة البلدية ل«الصباح الأسبوعي»: حجز 6906 عربة مجرورة وإيقاف 1687 شخصا من بينهم أصحاب سوابق عدلية.. أكد الكاتب العام للنقابة العامّة لموظفي الشرطة البلدية محمد الولهازي ل«الصباح الأسبوعي» ، أن الشرطة البلدية تمكنت خلال السبعة أشهر الأخيرة (من شهر جانفي إلى شهر جويلية 2018) من حجز 6906 عربة مجرورة بتهمة الانتصاب الفوضوي بالطريق العام وذلك في كامل جهات الجمهورية وتقديم 1687 شخصا من ممتهني «المهن الوضيعة» تطبيقا للقوانين والتراتيب البلدية وأن الوضعية الاجتماعية الهشة لأصحاب نقاط الانتصاب الفوضي، ينظر فيها رئيس البلدية لا فرق الشرطة البلدية موضحا أن البعض ممّن وقع تقديمهم إلى الشرطة العدلية هم من أصحاب السوابق. وحذر محدثنا من المخاطر الصحية، التي تتسبب فيها المواد الغذائية و»السندويتشات» المعدة من قبل هؤلاء الباعة مضيفا أن الانتصاب الفوضوي للأكشاك والعربات المجرورة يكون في أماكن وأوقات محددة حيث ينتشر هؤلاء الباعة في الصباح الباكر أو مع توقيت الغذاء أو ليلا تزامنا مع مواعيد سهر التونسي خاصة في الصيف وفي أماكن تكون مناسبة لمرور السيارات على غرار الطرقات السريعة وتحت الجسور والمفترقات الدائرية والشواطئ.