بعيدا عن لغة العاطفة وما تخفيه النوايا فان الحقيقة أنه كان من الاجحاف أن يهيمن الصراع الدائر بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد والسبسي الابن على الحوار الذي انتظره التونسيون وتطلعوا الى حلول ومواقف ترتقي الى حجم تحديات المرحلة وما تواجهه تونس من أزمات تفاقمت على وقع الطوفان الذي أغرق ولاية نابل المنكوبة... الا أنه وبرغم حالة الانهاك الواضح والحزن الذي بدا على ملامحه فقد تمكن الرئيس الباجي قائد السبسي من تمرير أكثر من رسالة لأكثر من طرف في الداخل والخارج عكست موقف رئيس الجمهورية من الاعلام العمومي الذي يعتبره مؤيدا لرئيس الحكومة... وأول تلك الرسائل وأهمها أن الانتخابات التشريعية والرئاسية ستكون في موعدها «للضرر» بعد خمس سنوات من «التوافق المزيف» الذي تم بمقتضى صفقة باريس في 13 اوت 2013 والتي خيبت ظن الكثيرين ممن منحوا أصواتهم لحركة نداء تونس ولكنها اعتبرت من جانب شريحة لا يستهان بها بمثابة الجسر الذي جنب تونس السقوط الى الهاوية والغرق في صراعات الحرب الاهلية التي أنهكت أغلب دول الربيع العربي ... ولا شك أن في تعجيل قيادات من حركة النهضة لنفي القطيعة والتمسك بدور ومكانة رئيس الجمهورية ما يمكن أن يؤكد أن لعبة المصالح قد تكون تغيرت ولكن الحاجة للتوافق لا تزال مطلوبة على الاقل في هذه المرحلة... والحقيقة أن اقرار الرئيس بنهاية مرحلة التوافق أو «بنفض حركة النهضة يدها منه» ليس بالأمر الجديد، فقد كان واضحا ومنذ انطلاق قرطاج 2 «أن الطرق بين النداء والنهضة لم تعد تلتقي وأن يوسف الشاهد بات الخيار الواضح للنهضة ولكنه خيار مشروط بعدم ترشحه وفريقه للانتخابات القادمة ... فماذا يعني انهاء التوافق من جانب رئيس الجمهورية وهو الذي كان رفع شعاره الانتخابي أن النداء والنهضة خطان متوازيان لا يلتقيان قبل أن يتخلى عنه؟ الواقعية تقتضي الاقرار بأن السياسة تعني اتقان ادارة لعبة المصالح على اعتبار أن حليف وصديق اليوم ليس بالضرورة حليف الغد والعكس صحيح أيضا. وهذه الواقعية تفترض أيضا قراءة المشهد قراءة صحيحة بعيدة عن التأويلات. فقد كانت الارضية مهيأة لتصدع النداء الفائز الاول بانتخابات 2014 وانفراط عقده وتحوله الى دكاكين حزبية فهمت النهضة بسرعة أنه لن يكون لها وزن طالما ظلت على انقساماتها وصراعاتها وحسابات الزعامة الوهمية التي أنهكت ظهر النداء حتى ركبه كل انتهازي ... حتى الان، يبدو ظاهريا أن النهضة المستفيد الابرز من حالة الانهاك التي يعيش على وقعها النداء والاحزاب الحداثية ليس لغياب الانقسامات والازمات في صفوفها ولكن بسبب الانضباط داخلها والانصياع لقرارات القيادات التي لا تخفي أهدافها وطموحاتها في استعادة مقاليد السلطة والعودة الى المشهد بقوة. وقد لا يكون من المبالغة الاقرار بأن مصير أغلب الاحزاب التي تحالفت مع النهضة حتى الان كان الاندثار والتفكك حيث لم يبق من حزبي المؤتمر والتكتل شيء يذكر... والامر ذاته تتجه اليه حركة نداء تونس التي تفككت بمجرد انسحاب مؤسسها لتتحول الى مجرد رقم مفرغ لا تأثير له في المشهد.. وبالعودة الى اعلان رئيس الجمهورية الطلاق بين النداء والنهضة بكل ما يعنيه من احتمال العودة الى صراع الايديولوجيات الذي عاشت على وقعه البلاد بعد الثورة، وتجربة ومناخ فترة الترويكا ومفاوضات السنوات الثلاث التي استوجبت وضع الدستور ليس ببعيد، فان الاكيد أن فيه أيضا اشارات لأطراف اقليمية ودولية راهنت على النموذج التونسي ودعمت تحالف العلمانيين والاسلاميين في تجربة فريدة بين كل دول المنطقة برغم كل اهتزازاتها وعيوبها ولا يمكن لكل من راهن ودعم هذه التجربة أن يقبل بانهيارها... في انتظار ما قد تحمله قادم الأيام، يبقى الأكيد أن الشاهد بات أمام اختبار مصيري وهو الذي يبدو اليوم في موضع حمال الأسية أو ربما الجسر الذي ستحتاجه النهضة للعودة الى السلطة قبل أن تنفضه من حساباتها كما نفضت من سبقه ...