يوشك اللقاء السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة أن يتحول من ناد مفتوح أمام قادة العالم لاستعراض قدراتهم الخطابية والبلاغية في استعراض أزمات العالم وقضاياه ما خفي منها وما علم إلى سيرك للرقص الديبلوماسي على وقع ماسي الشعوب والأوطان ... الرئيس الأمريكي دونالد ترامب زعيم الاوركسترا أصر خلال الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة على استعراض قدراته في إرساء "ديبلوماسية الحرب" عنوانا للنظام العالمي الجديد الذي يكتب اليوم من على منبر الأممالمتحدة التي لم يعد ميثاقها المؤسس بأن تكون الضامن للأمن والسلم في العالم ينطبق على أهدافها.. العدالة الدولية العرجاء تفسح المجال اليوم لديبلوماسية الفوضى وهيمنة القوي للضعيف واستنزاف الطاقات البشرية واجتثاث ما بقي من بذور إرساء عدالة دولية تنتصر بين الحين والآخر للمظلومين وتكف أيدي وحسابات العابثين.. والأكيد أن السبب لا يتوقف عند حدود لعنة الفيتو الذي تنفرد به القوى الدائمة العضوية ولكن الأمر يذهب إلى ابعد من ذلك وإلى انعدام التوازن وتفاقم الفروقات بين الشعوب الفقيرة والشعوب الغنية المتحكمة في أسواق المال والأعمال والتكنولوجيا والسلاح ... الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بدا وهو يلقي خطابه في الأممالمتحدة أقرب إلى إعلان الحرب على خصومه منه إلى البحث عن التفاوض والحوار والسلام.. طبعا ندرك أن لترامب حساباته وهو الذي يستعد لخوض انتخابات الكونغرس النصفية ويحتاج لرص الصفوف والفوز بدعم وتمويل اللوبيات المتنفذة لتعزيز موقع الجمهوريين في الكونغرس استعدادا لخوض سباق الانتخابات الرئاسية والفوز بولاية ثانية في البيت الأبيض.. ولم يجد ترامب أفضل وأبلغ من مغازلة اللوبي اليهود والتباهي بانجازاته في دعم الكيان الإسرائيلي وترسيخ سياسة الاحتلال وممارساته البغيضة والمفاخرة بوقاحة معلنة بقرار وصفه بالتاريخي في نقله السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدسالمحتلة بعد تجفيف منابع تمويل والفلسفة الترامبية غير المسبوقة جعلت من الوقاحة والتمادي في الاستخفاف بالقانون الدولي شعارا ومنهجا ... ولاشك أن في إصرار ترامب على وصف إيران بأنها اكبر دولة راعية للإرهاب ما يدعو للاستفزاز.. لسنا في وارد الدفاع عن سياسة إيران وتدخلاتها المعلومة في المنطقة وإغراءاتها للحوثيين وهيمنتها على العراق وتمددها في سوريا ولبنان واعتبارها الربيع العربي انتصار وامتداد للثورة الإسلامية في إيران ولكن الحقيقة أن في خطاب ترامب الكثير من المغالطات والتسويف والانتهاك لمفهوم وأهداف القانون الدولي والشرعية الدولية. وأنه عندما يأتي ذلك من جانب القوى الأولى في العالم التي وضعت الأحرف الأولى لميثاق الأممالمتحدة ليكون الفيصل في حل النزاعات والحروب فان الأمر لا يمكن إلا أن يدفع نحو تقويض ما بقي من قانون دولي ساعد حتى الآن وبرغم عيوبه الكثير وسياسة المكيالين في أحيان كثيرة في وضح حد لمرحلة الاستعمار وتعزيز مطالب وحق الشعوب في الاستقلال والسيادة والكرامة بعد الحرب العالمية الثانية ودفع ولو بكثير من البطء في مكافحة الجوع والأمراض والأوبئة والعمل على تنمية الشعوب والمجتمعات ونشر التعليم ... وإذا كان الرؤساء الأمريكيون السابقون يتوخون سياسة المماطلة والتمويه كلما تعلق الأمر بالقانون الدولي فان ترامب اختار الوضوح بإعلانه انه لا قوة ولا قانون فوق قراراته وخياراته.. وهو وان كذب على لسان وزير خارجيته أن يكون هدفه تغيير النظام الإيراني فن كل ما يقوم به يصب في هذا الاتجاه ويعزز القناعة بأن الهدف زعزعة المشهد الإيراني ومزيد العقوبات على إيران وهو من ناحية أخرى يدعو إلى مكافحة انتشار السلاح النووي ويوجه أصابع الاتهام الى بيونغ يانغ وطهران ويستثني في المقابل البرنامج النووي الوحيد والأخطر في منطقة الشرق الأوسط ... ترامب يراهن على محاكمة الأنظمة القمعية ولكنه في المقابل يرفض لجوء الشعوب المستضعفة اللجوء الى المحكمة الجنائية الدولية للمطالبة بحقها في السيادة والحرية والكرامة وملاحقة المحتل الأجنبي ومحاسبة المعتدي ومرتكب جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية.. ترامب يلعن الفساد والحكام الفاسدين ويعتبر أن النظام الإيراني فاسد وقد يكون محقا جزئيا في ذلك فالفساد ينخر كل الأنظمة والحكومات ولكنه في المقابل لا يرى من الفساد المستشري في العراق شيئا ولا يطالب بمحاكمة ومحاسبة من اجتاحوا هذا البلد بدعوى إنقاذ العالم من سلاح الدمار الشامل قبل أن يستعيذوا عن ذلك بالسعي لإرساء الديموقراطية والعدالة فحولوه إلى خراب وامتصوا ثرواته واستباحوا حرماته وهجروا علماءه وأطاحوا بأحلام وطموحاته أجيال متعاقبة تحت غطاء بناء النموذج الديموقراطي العراقي.. السيرك الديبلوماسي الذي يقوده ترامب ليس قريبا من نهايته وهو الذي وجد في استكانة بقية القوى المتنفذة في مجلس الأمن الدولي فيلقا من النعام يخفي رأسه في الرمل كلما اجتمعت المصالح ويجعلها ليوثا متوثبة كلما تعلق الأمر بالدفاع عن مصالحها.. انه النظام العالمي الجديد الذي يتمدد ويرسم العلاقات المستقبلية لعالم يشهد بثبات اندثار ما بقي من بنود قانون العدالة الدولية المتبخرة في حسابات القوى الدولية المتوحشة ...