صفعة على وجه جندي اسرائلي مدجج بالسلاح كلفتها ثمانية أشهر خلف القضبان ولكنها صفعة ستجعل منها أيقونة للمقاومة الفلسطينية ورمزا لجيل جديد لمواصلة المسيرة النضالية النسائية على ارض فلسطين وهي بالتاكيد ليست جيل ليلى خالد وخالدة جرار ولكنها وجه اخر لنضالات المرأة الفلسطينية المتوارثة بين الاجيال.. عندما سجنت عهد التميمي 19 سبتم 2017 وهي في سن السادسة عشرة لم ينتبه الكثيرون الى أن والدها سجن احد عشر مرة بسبب الاحتلال وأن أمثاله كثر في قرية النبي صالح التي تنتمي اليها.. والدتها ناريمان التميمي بدورها كانت نزيلة السجن أيضا لانها رفضت اعتقال ابنتها ولكن في زنزانة أخرى.. عهد الطفلة التي ذاع صيتها عبر العالم وحظيت بدعم رسمي وشعبي غير مسبوق وتجند لاطلاق سراحها حقوقيون من مختلف أنحاء العالم انضموا الى توقيع عريضة مليونية تطالب باطلاق سراحها، خرجت من سجنها بعد تجربة مؤلمة استمرت ثمانية أشهر ولكنها جعلتها اكثر قوة واصرارا على تحقيق هدفها من السابق.. تقول عهد التي تزور تونس بدعوة من رئاسة الجمهورية في الذكرى الثالثة والثلاثين للعداون الاسرائيلي على حمام الشط (غرة اكتوبر 1985) إنها لم ولن تندم على ما أقدمت عليه وأنها لم ولن تتخلى عن رفيقاتها السجينات وأنها أكثر حرصا من أي وقت مضى على أن تكون سفيرة لكل الاسيرات لا سيما القاصرات منهن.. الاكيد أن الحديث الى عهد التميمي الطفلة التي أعادت تسليط الانظار على ممارسات وانتهاكات الاحتلال في حق الطفولة الفلسطينية المستهدفة في كل لحظة لا يخلو من الاثارة والمتعة رغم مرارة وقتامة الواقع الفلسطيني. ولاشك أن شعورا ممزوجا بالعطف والحب يعتريك وأنت تحاورها ولكنها تبقى شامخة بوجه طفولي جميل وشعر غجري وجسد نحيل ولكن لديها قدرة وبراعة في الخطاب تعكس درجة من الثقافة وسعة الاطلاع. تتحدث عن تجربتها خلف القضبان وترفض دور الضحية متمسكة بحلمها الفلسطيني الكبير واصرارها على مواصلة الملحمة، فلا تملك الا أن تستمع لها ولسان حالك يتساءل ماذا لو كانت طفلتك؟ وكيف أمكن للسجان أن يضع القيود حول معصميها وكيف أمكن لقوات الاحتلال أن تضعها في الاسر طوال ثمانية أشهر؟ الحقيقة أيضا أنه وجب الاشارة الى أن هذا اللقاء ليس بالحديث الصحفي الكلاسيكي وهو لا يخضع للشروط السؤال والجواب، ولكنه كان في جلسة مشتركة جمعتنا بايقونة المقاومة الفلسطينية بحضور السفير الفلسطيني هايل الفاهوم ووالدتها ناريمان التي عرفت السجون الاسرائيلية ثلاث مرات ووالدها جاسم التميمي الذي سجن بدوره إحدى عشرة مرة وشقيقيها وقد كانت تتحدث بكثير من العفوية ولكن أيضا بكثير من الوعي والنضج والمسؤولية عن قضية شعب يبحث له عن موقع له تحت شمس الحرية... من فرنسا الى اليونان واسبانيا الى تونس محطتها العربية الاولى قبل أن تتجه الى الجزائر والمغرب وتركيا تواصل عهد التميمي ما تعتبره رسالتها الى العالم دفاعا عن حق الاسرى الفلسطينيين والمعتقلين القاصرين في سجون الاحتلال على أمل أن تتكثف الضغوطات الدولية وتحركات المنظمات والهيئات الحقوقية لتساعد في استعادة عشرات الاسرى الاطفال حريتهم المسلوبة.. سفيرة كل الأسيرات عهد التميمي تعرف ما تريد مستقبلا وهي تعتبر أنها ستكون محامية الاسيرات و لاسيما القصر، وتشير أنها ستتابع دراستها الجامعية لأن العلم وحده يمنحها سلاحا أقوى تواجه به العدو. وفي السجن شاركت في الامتحانات التي ستؤهلها لدخول الجامعة وخلف القضبان تلقت دورة تدريبة في العلوم السياسية. ومنذ كان سنها 11 عاماً وهي تردد أنها ستكون محامية. قبل ذلك كانت عهد تحلم بأن تكون لاعبة كرة قدم قبل أن تغير وجهتها وتدرك مع تكرار تعرض والدها للاعتقال أن عليها أن تتسلح بمعرفة القانون حيث كنت ممنوعة من زيارته في السجن وهو ما ولد لديها رغبة في أن تصبح محامية للدفاع عن الأسرى وحتى تستطيع رؤية والدها. ثم كان استشهاد خالها برصاص الاحتلال وتم تبرئة الجندي القاتل وحينها قررت ان تصبح محامية وتدرس القانون الدولي حتى تحاسب كل هؤلاء الجنود. وتحاسب اسرائيل على جرائم الحرب وعلى الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها في حق الفلسطينيين. مفيش طفولة تحت الاحتلال عما اذا كانت تجربة السجن والمعركة النضالية سلبتها مبكرا طفولتها تقول عهد التميمي بلكنة فلسطينية «أصلا ما فيش طفولة تحت الاحتلال»، حتى احرم منها، فنحن لسنا مثل كل اطفال العالم وطفولتنا تحت الاحتلال بلا طعم وهي طفولة محكومة بالايقافات والملاحقات والاسر والحرمان من الحياة. وعن تجربتها في الاسر تقول دون أن تفقد ابتسامتها أنها تجربة صعبة خضعت معها للكثير من الضغوطات داخل السجن ولكنها كانت ثرية وزادتني قوة وصلابة وتمسكا بمواقفي. هذه ظروف وملابسات التحقيق تقول عهد التميمي أنه تم التحقيق معها ثلاث مرات، مرة لمدة ساعات طويلة، وأنها تعرضت لكثير من الضغط بعد حرمانها من النوم والتعذيب النفسي كما اقترن التحقيق بالتحرش اللفظي. وفي أحد التحقيقات كان المحقق يقول لها شعرك جميل وعيونك جميلة، وسُرّب فيديو للمحقّق الذي كان يهدّدها باعتقال أفراد من عائلتها ورغم أنها قاصر لم يكن معها محام والأمر كان صعباً جداً. ومع ذلك تقول عهد انها استطاعت الصمود وحافظت على ابتسامتها أمام المحققين في المحكمة وهو ما كان يستفزهم. وقد ساعدها في ذلك ما نشأت عليه في عائلتها التي عرفت الاعتقال والاغتيال والسجون وكلما كان احد أفراد العائلة يغادر السجن يروي ما حدث معه، ومن هنا تعلمت حق الصمت اثناء التحقيق. في الزنزانة كانوا يتنصتون علينا وقد انتبهنا لجهاز التنصت. فكان كل حديثنا غناء عن فلسطين ولم نعترف بشيء من كل الاتهامات الموجهة لنا. ثم انني من قرية النبي صالح وكل من فيها مهدد بالاعتقال في أية لحظة. وماذا عن رفيقاتك في السجن؟ تقول عهد التميمي أن فرحتها بالحرية منقوصة، منقوصة ولن تكتمل قبل تحرير كل الاسرى والاسيرات الفلسطينيين.. وانها ستواصل المعركة لاجلهن تذكر هدية عرينات ومنار شويكي ولمى البكري الاسيرات القاصرات وهن يواجهن أحكاما قاسية وهن اللاتي اشتركت معهن في الدراسة وفي الطبخ وحتى الغناء في السجن. وهي تتمنى فعلا أن يستمر الدعم الذي وجدته خلال الاعتقال لكل الاسيرات وأن يستمر الضغط السياسي الدولي الذي حصل من أجل قضيّتها وهي ترفض فكرة أنها ضحية وتعتبر أنه لا بديل عن ثقافة المقاومة وأن كل فلسطيني مقاتل من اجل الحرية... «لم ولن اندم على ما قمت به»، تقول عهد طفلة الامس التي تدخل مرحلة نضالية جديدة وتصر على أن ما أقدمت عليه كان عن قناعة، الصفعة لم تكن موجهة فقط للجندي، بل «لكل العالم حتى يرى الجميع حقيقة الاحتلال، جنود الاحتلال يأتون الى بيوتنا ويعتدون علينا، لست نادمة أبداً، وإن تطلّب الأمر سأعيد ما قمت به». بين دخولها السجن في 29 سبتمبر 2017 واستعادة حريتها في جويلية الماضي لم تعد عهد التميمي تلك الطفلة الغاضبة المتمردة على السجان بل هي اليوم عنوان لمعركة طويلة وقضية مصيرية حملت رايتها مبكرا.. وخلال جولتها الفرنسية الاسبوع الماضي وجهت عهد خلال مشاركتها في احتفال أقامته جريدة «لومانيتيه» في لاكورنوف في ضواحي باريس رسالة الى الرئيس الامريكي و قالت «أريد ان أقول لترامب أن القدس ستبقى عاصمة فلسطين»، و أن «اللاجئين الفلسطينيين ليسوا بحاجة الى مال الاميركيين بل يريدون العودة الى أرضهم واستعادة كرامتهم»، مضيفة «علينا أن نكون موحدين امام الاحتلال».. هل أنت نادمة على ما حصل؟ أكيد لا، تقول عهد «أنا لست نادمة، والذي فعلته كان عن قناعة، وربما هذه الصفعة لم تكن فقط للجندي، كانت لكل العالم حتى ينظروا للحقيقة ويلتفتوا لها، أنظروا أنهم هم من يأتون إلى بيوتنا ولسنا نحن من نذهب إليهم ونضربهم. كانت ردّة الفعل الطبيعية على وجود الجنديّ على أرضي، وبيتي وعائلتي فأنا لست نادمة أبداً، وإن تطلّب الأمر أعيدها». احتفلت عهد عندما كانت خلف القضبان بعيد ميلادها السابع عشر ووجه لها والدها هدية قصيدة كتب كلماتها.. وماذا عن جائزة نوبل؟ ونحن نودع عهد لتتمتع بزيارتها الى تونس خامرنا سؤال، ألا تستحق هذه الطفلة الفلسطينية الايقونة الشامخة التي ارتبط اسمها بالدفاع عن الارض والعرض في زمن ضياع البوصلة وانهيار قيم العدالة الدولية والانسانية أن تتوج بجائزة نوبل للسلام وأن تحظى كما حظيت سان سوكي البورمية وملالا يوسف الباكستانية وتوكل كارمان اليمنية بهذا التكريم الذي سيحمل الاعتراف بحق شعب طالت معاناته مع الاحتلال في السيادة والحرية والكرامة... على حق، لأنك حملتِ رسالة جيل، لن يُسقط الراية، وسيستمر في الهجوم .. على حق، لأنك ما انحزت إلا لشعبك ولقضية وطنك؛ فانتميت لفلسطين.. ولا شيء سوى فلسطين.. على حق، لأنك النموذج المقاوم الذي يجمع عليه أحرار هذه المعمورة .. فلا تقنطي صغيرتي، حريتك قادمة، والمحتل إلى زوال، وتلك القلة من المدّعين المزايدين المرتعشين، لن تحصد غير الخيبة ولعنة التاريخ... أنت العهد، وأنت المجد..