تنشر «الصباح» في عددها الصادر اليوم الجزء الأول من رأي قانوني حول «حقوق المرأة حاجة اجتماعية وقانونية ملحّة» بقلم القاضي عمر الوسلاتي.. «إن اعتبار قضية المرأة من قضايا الترف الفكري أو قضايا النخبة البورجوازية تعبر في حد ذاتها عن أزمة وعي جماعي موغل في الجهل والتخلف باسم المقدس وحبيس النظرة الدونية فتغيب قضية المطالبة بحقوقها أمام آلة اجتماعية وثقافية ذكورية قمعية فهي لا تزال تصارع من أجل الحياة لا من اجل الكرامة الكاملة والحقوق المتساوية مع الرجل ولا شك أن قضية المرأة، هي قضية إنسانية واجتماعية ومجتمعية بالأساس وكل اضطهاد للمرأة بأشكاله المختلفة سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية يؤدي في النهاية إلى القهر والظلم والحيف وغالبا ما يكون ذلك مبررا لدى شريحة واسعة من عموم الناس تحت غطاء المقدس ثم يأتي القانون مترجما لذلك الحيف والظلم والقهر ويؤدي إلى التمييز الذي يطال كل مجالات الحياة المختلفة للمرأة وإذا اعتبرنا أن المرأة تمثل نصف المجتمع فلا يمكن الحديث عن تنمية اقتصادية واجتماعية متزامنة ووضع المرأة فيه مترد وهش، وبالتالي فانه يجب أن تنصب جهود الفاعلين من سياسيين ومجتمع مدني ومنظمات وطنية التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على تكريس حقوق المرأة دون تمييز على أساس الدين أو اللّون أو الجنس والهوية أو الانتماء الجهوي والوضع الاجتماعي والاقتصادي والوضع الصحي وذلك بتعديل القوانين أو إلغائها لتتواءم مع الدستور. إن التحرر والمساواة بين الجنسين في إطار حركة حقوق الإنسان الكونية هي جوهر كل تطور مجتمعي على كل المستويات لذلك يجب أن تستجيب القوانين والدساتير إلى حركة حقوق الإنسان في كونيّتها وشموليتها وتونس من الدول العربية الرائدة في هذا الخصوص باعتبارها صادقت على أغلب المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان وأهمها اتفاقية «سيداو» المتعلقة بحقوق المرأة والاتفاقيات الإقليمية من ذلك الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان وبرتوكوله الاختياري المتعلق بحقوق المرأة وتعتبر تونس من أول الدول العربية التي أصدرت قانونا للأحوال الشخصية ومنعت تعدّد الزوجات وجرّمته وقدّمت تقاريرها لعديد اللجان الخاصة بحقوق الإنسان (لجنة مناهضة التعذيب ومجلس حقوق الإنسان لما عرضت تقريرها الدوري الشامل عن حقوق الإنسان) ولكن هذه الحركة باتجاه مواءمة التشريع الوطني للدستور التونسي الجديد الذي تبنى منظومة حقوق الإنسان في كونيتها واقر بصفة صريحة المساواة التامة بين الجنسين تأسيسا لجمهورية المواطنة التي تقوم على المساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص ومنع التمييز وتعزز وضع المرأة بسن دستور جديد للبلاد في 27 جانفي 2014 ولكن المنظومة الجديدة للحقوق التي تضمنها دستور الجمهورية الثانية تقابله قوانين وقرارات إدارية، أقل شأناً، تُكرس التمييز ضد المرأة، وتمنح حقوقاً للرجل دون المرأة. I. التكريس الدستوري لحقوق المرأة يعتبر دستور الجمهورية التونسية الثانية أهم الدساتير في العالم التي تقر من خلال أحكامه كونية الحقوق وتتبناها في شموليتها قطعا مع ما كان سائدا من انتهاكات جسيمة طالت حقوق النساء بالرغم ان النظام الاستبدادي كان يروج دائما في الداخل وفي الخارج تقدمه في إقرار حقوق المرأة والمساواة مع الرجل في كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ويكون الدستور التونسي الجديد قطع نهائيا مع تلك النظرة الدونية للمرأة تظهر من خلال تأويل القوانين وإصدار المناشير لحرمان المرأة من حقوقها تحت عناوين مختلفة المحافظة على هوية المجتمع وكأنما الحرية والمساواة يمثّلان خطرا محدقا بالمجتمع يهدد كيان الأسرة وينال من دين شعبها وفي خضمّ ذلك فقد تمكن الدستور التونسي الجديد الذي صادق عليه أكثر من 200 نائب بالمجلس الوطني التأسيسي في جلسة ممتازة من أصل 217 توافقا واسعا حول ما تضمّنه بين مختلف المكونات السياسية باختلاف توجهاتها المحافظة والتقدمية. 1. تضمين المكتسبات وتطويرها وضع نواب المجلس الوطني التأسيسي حجر زاوية لمنطلقات تبني حقوق المرأة فلم ينطلقوا من نقاش على ورقة بيضاء بل انطلقوا من مكتسبات المرأة منذ الاستقلال الى اليوم من ذلك مجلة الأحوال الشخصية وبقية القوانين التي تبنت مجموعة من الحقوق الهامة في تلك الحقبة التاريخية المعادية للحريات ولحقوق المرأة بشكل عام وهو ما تم تضمينه بالفصل 46 من الدستور على آن «الدولة تلزم بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها» دون أن نغفل أهمية الفصل 21 الذي نص صراحة وبوجه لا يدع مجالا للشك والتأويل بخصوص إقرار المساواة التامة بين الجنسين على أن «المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون من غير تمييز». ووردا الفصلان بالباب الثاني من الدستور المتعلق بالحقوق والحريات في سياق المحافظة على المكتسبات السابقة وتحصينها أولا ثم تدعيمها ثانيا. ويمكن هنا ان نعرج على أهم المكتسبات للمرأة التونسية قوانين الأحوال الشخصية مكسب حضاري وتعتبر مجلة الأحوال الشخصية ضمن النصوص التشريعية من أهم مكتسبات التي تحققت للمرأة فقد أرست هذه المجلة مجموعة من الحقوق الأساسية كالإقرار بحق المرأة في اختيار قرينها وتحديد السن الدنيا للزواج بسن الرشد القانوني ( 18) سنة رغم تواصل العمل بالية الترشيد القضائي للزواج وهو يتعارض والتزامات تونس بتحديد السن الدنيا للزواج وبصدور مجلة الأحوال الشخصية وأصبح الزواج عقد مدني يبرم بحجة رسمية ولا يقع الطلاق إلا بحكم تصرح به المحاكم المدنية المختصة وحدها في إضافة الى منع تعدد الزوجات وتكريس حق الزوجة في طلب الطلاق وسمح القانون عدد 91 لسنة 1998 المؤرخ في 09 نوفمبر 1998 باعتماد نظام الاشتراك في الأملاك بين الزوجين والذي يحمي عند اختياره من قبل الزوجين حقوقهما في حالة الطلاق في ما يتعلق بالأملاك المكتسبة بعد الزواج . 2. تحصين الحقوق وحمايتها اقتضت أحكام الفصل 65 من الدستور التونسي الجديد أن قوانين الأحوال الشخصية تتخذ صبغة القوانين الأساسية' وهي تستوجب ان تقع المصادقة عليها بالأغلبية المطلقة لأعضائه حسب ما نص الفصل 64 من الدستور التونسي وهو تحصين من تعديل تلك القوانين الضامنة لحقوق المرأة. كما يعتبر الفصل 49 من الدستور الذي نص صراحة على ان أي تقييد للحريات والحقوق الواردة بالدستور يجب أن يحدد القانون ضوابطها بما لا ينال من جوهرها «حدّد القانون الضوابط المتعلقة» ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها. وتتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك. لا يجوز لأي تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور". واسند وظيفة حماية هذه الحقوق للهيئات القضائية وهي جهة الرقابة الوحيدة التي تتحمل مسؤولية حماية الحقوق التي كرستها القوانين سواء المكتسبة او الجديدة بمقتضى الدستور. (يتبع)