تتواصل ردود الأفعال اثر الصدمة التي أحدثها تقرير دائرة المحاسبات الأخير لما كشفه من حجم التجاوزات والإخلالات والتلاعب بالمال العام. ورغم إقرار الجميع بانتشار رقعة الفساد الذي تحول إلى ممارسة يومية ودخولنا منذ أمد طويل في خانة التطبيع معه أفرادا ومؤسسات، وحتى منظومة حكم. إلا أن حجم «رجة» تقرير دائرة المحاسبات بدا واضحا لدى الرأي العام في تفاعلاته عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، كما لدى بعض القطاعات والمؤسسات التي وجدت نفسها مدرجة في التقرير وتلاحقها اتهامات العبث والفساد. ولعل ما حاز عليه تقرير دائرة المحاسبات من اهتمام وجدل، مرجح أن يتواصل في الأيام وربما الأشهر القادمة، يعود في جزء كبير منه إلى تزامنه مع مزاج عام محتقن ساخط على أداء حكومي وسياسي مخيب للآمال وعلى أوضاع مالية واقتصادية واجتماعية متأزمة تزداد سوءا يوميا، وسط ضغوط لهيب الأسعار وانهيار المقدرة الشرائية لأغلب التونسيين وتدني الخدمات في جل المؤسسات العمومية من تعليم وصحة ونقل وبيئة... في المقابل يتواصل نزيف الفساد وسوء التصرف وغياب الرقابة والردع الذي ينخر مكاسب المجموعة الوطنية. تبدو الحكومة وتحديدا يوسف الشاهد الأكثر إحراجا من فحوى تقرير دائرة المحاسبات، أوّلا بسبب الضغط وسهام النقد الموجه له في سياق الحرب المعلنة بينه وبين حزب النداء ورئيس الجمهورية، وثانيا لأنه رفع سابقا لواء الحرب بلا هوادة على الفساد والفاسدين دون أن تتضح مخرجاتها ونتائجها الملموسة على أرض الواقع. ويبدو الشاهد مع مفتتح السنة الإدارية الجديدة أمام خيارين: إما المضي في اتخاذ إجراءات عملية واضحة تؤكد إرادة سياسية صلبة في الضرب بيد من حديد على الفاسدين دون انتقائية ولا حسابات من أي نوع، مع إعطاء الاهتمام اللازم لمواضيع النجاعة في التصرف العمومي والإسراع في توفير الدعم المادي والتشريعي لهياكل الرقابة وفي مقدمتها دائرة المحاسبات، وأيضا لمرفق القضاء للبت في آلاف قضايا الفساد المحالة على المحاكم والمعطلة بما يوحي بتكريس سياسة الإفلات من العقاب... وإما تأكيد اتهامات سابقة لاحقته من داخل النداء وفي صفوف معارضيه بأن حربه على الفساد كانت انتقائية لتصفية خصوم سياسيين لا غير. ونأمل أن يكون خيار رئيس الحكومة في 2019 محاربة الفساد قولا وفعلا لا شعارات سياسية أو انتخابية هذه المرة.