نعتذر على هذا التعسف على الفنان الراحل بيرم التونسي ونقتبس مقولته الرائدة يا بائع الفجل بالمليم واحدة كم للعيال وكم للمجلس البلدي لنقول بدورنا أمام تاجج موسم الاحتجاجات في السودان وعودة شماعة المؤامرة الى الخطاب الرسمي للتساؤل عن المسؤولية في المشهد السوداني الراهن منذ عقود والفقر والتردي الحاصل في هذا البلد.. كم للبشير وكم للمؤامرة في نصيب السودانيين اليوم بعد نحو ثلاثة عقود على توليه السلطة.. يخطئ الرئيس السوداني عمر البشير اذا كان يعتقد أنه بتحذيره السودانيين من تداعيات التحولات الحاصلة في دول الربيع العربي يمكن أن يخيف المحتجين في الشارع السوداني أو يدفعهم للتراجع عن تحركاتهم الشعبية المستمرة منذ أسبوعين، والسبب ليس زيف تحذيرات البشير التي تظل منطقية الى حد بعيد، فالمشهد في أغلب دول الربيع العربي في انهيار مستمر بعد أن تحولت الى حالة من الفوضى الهدامة، ولكن السبب يعود في الاساس الى أنه ليس هناك ما يمكن لاهل السودان أن يتحسروا عليه أو يخافوا فقدانه في بلد كان ومازال عنوانه الابرز لا رخاء ولا ازدهار.. وربما نسي البشير أو تناسى أنه يحكم السودان منذ نحو ثلاثة عقود وأن كل الوعود بمستقبل أفضل لا معنى له اليوم بعد كل السنوات العجاف التي لم ينل معها السواد الاعظم من الشعب السوداني غير مزيد المعاناة مع الفقر والتخلف والانهيار كل يوم أكثر، حتى بلغت المعاناة مرحلة غير مسبوقة مع انهيار خارطة السودان وتقسيمه الى سودان شمالي مسلم وجنوبي مسيحي بعد أن استنزفت الحرب الاهلية دماء السودانيين وفرضت عليهم الاتفاق خلف الاتفاق لينتهي المشهد الى ما هو عليه فلا السودان حقق التقدم الاقتصادي والتطور الاجتماعي المطلوب ولا اطفال السودان يتمتعون بفرص متساوية في الحياة والتعليم والصحة ولا المهمشين وهم الاغلبية وجدوا فرصة لحياة بكرامة على الارض التي يبدو أنها كانت قادرة على اطعام سكان القارة السمراء، بما يعني وبعيدا عن لغة المؤامرة أن البشير يؤكد حتى هذه المرحلة أنه لم يستفد من كل الدروس السابقة التي مر بها السودان حتى الان ولا من كل دروس المرحلة والتجارب التي مرت بها مختلف شعوب دول الربيع العربي التي يبدو أن البشير لا يريد قراءة ما تضمنته من اشارات أوالتوقف عند مختلف الفرص المهدورة التي كان يمكن أن تجنبه وتجنب السودان معها السيناريو الذي لا نتمنى للسودانيين ولا للبشير أن يعرفه.. من يتابع تصريحات الرئيس السوداني عمر البشير النارية واصراره على عدم التنازل وبيع البلاد من اجل حفنة من الدولارات، او يستمع لتحذيراته من ان الاحتجاجات لن تحل مشاكل السودان، أو كذلك تفانيه في اظهار قدرته على تفهم حجم معاناة الفقراء والشباب منهم وهو الذي عاني في شبابه من الخصاصة والجوع عندما كان طالبا واضطر للعمل لكسب قوته، سيدرك حتما ومن دون عناء أن قدرة البشير على الخطابة لا تقل عن اجادته لفن الرقص الشعبي بالعصا ولا عن قدرته في الذود بمظلة المؤامرة الخارجية المستمرة منذ نصف قرن التي تستهدف السودان والتي يسعى باخراجها الى العلن كلما تعلق الامر بالاحتجاجات والمطالب الشعبية من اجل حياة أفضل.. الا أن هذه القدرات الفائقة التي يتميز بها البشير تؤكد في المقابل افتقاره للاهم لفهم ما يحدث في السودان وهي القدرة على فك الشيفرة الاهم وقراءة دروس التاريخ والاستفادة من عبره لتجنيب البلاد والعباد الاسوأ.. الاكيد أن الحديث عن ربيع السودان مسألة تجاوزتها الاحداث منذ عقود بعد أن فوت السودان الفرص تباعا منذ منتصف القرن الماضي للقطع مع الانقلابات واعادة ترتيب الاولويات واختيار الافضل للاجيال السابقة والتوجه للاستثمار في الدولة المدنية ودولة القانون والمؤسسات والعدل ومواصلة ما كان الرئيس الراحل سوار الذهب أطلقه قبل أن تسقط البلاد في فخ الاسلام السياسي وتغرق في متاهات الاخونة والابتزاز والمتاجرة بين الدين والسياسة والتفريط بالتالي في كل الفرص التي كان يمكن ان تتاح لاجل الاستثمار في ثقافة المواطنة وتعزيز مقومات الانتماء للوطن والانتصار للمعرفة والاستفادة من قدرات وامكانيات السودان البشرية والطبيعية قبل أن يتامر المتؤامرون من ابناء السودان على هذا البلد ويقع في قبضة صراعات القبائل والطوائف والاقليات التي استنزفته حتى الرمق الاخير.. ليصبح المشهد السوداني مرادفا للفقر والجوع والاوبئة والاقتتال والصراعات العرقية الدموية التي ستنتهي بتقسيم هذا البلد.. البشير يفشل مرة أخرى في قراءة الاحداث وقد خرج مع تفاقم الاحتجاجات الشعبية ليقول انه سيخرج من الازمة أكثر قوة وجدد التذكير بأن «السودان ظل مستهدفا من قوى خارجية عبرالحصار... والحروب.. وقد يكون صادقا في قوله وقد ينجح في البقاء في السلطة عقدا اخر او نصف عقد ولكنه لن يكون بامكانه ان يبني ما فشل في بنائه حتى الان واقامة بلد متطور يطيب فيه العيش ولا يهرب منه ابناؤه لاي سبب كان.. خطاب البشير يظل الخطاب ذاته الذي توارثه الحكام العرب والذي ظلت الشعوب العربية تسمعه على مدى عقود طويلة. المؤسف فعلا أنه وبدل الانتباه الى حقيقة المشهد والاستماع الى اصوات الاحزاب والمؤسسات المطالبة بالبحث عن حلول سلمية لانقاذ البلاد يصر البشير على اتهام هؤلاء بالانتهازية»، وبدل تشخيص المشهد السوداني المتردي وتحديد الاولويات والخيارات المتبقية لمعالجة الازمة السياسية والاقتصادية اختارالبشير سياسة الهروب الى الامام والتلويح برفع الاجور واصدار أوراق نقدية جديدة لحل أزمة النقد في البلاد والحد من التضخم. وهي خيارات غير مدروسة تقودها الاهواء والتعلق بالسلطة ولا يمكن أن تساعد على تعافي السودان من ازماته أو ترسم خارطة لانقاذ البلاد وتلبية احتياجات وتطلعات اربعين مليون نسمة في السودان ما انفكت معاناتهم تتفاقم بعد انفصال جنوب السودان عام 2011.. وربما تاتي الساعات القليلة القادمة بما قد يجعل البشير يبحث عن طوق للنجاة فلا يجده بعد أن اهدر كل الفرص..