من حق الرئيس السوداني أن يرفع عصاه الغليظة عاليا ويلوّح بتأديب كل من تجاسر على إعلان التحدّي والتظاهر والمطالبة بإسقاط نظامه. وكيف لا يحدث ذلك وهو الذي يعود له الفضل في معرفة الشعب السوداني لوجبة "الهوت دوغ".. التي يمكن أن يُمنح البشير بمقتضاها تفويضا للانفراد بالسّلطة مدى الحياة. من الواضح أن عهد المهازل واستخفاف الزعماء العرب، ممن ما زالوا يعتقدون في أن وصولهم الى السّلطة يمنحهم حق الدّوْس على البلاد والعباد والاستهانة بالشعوب، لن ينتهي قريبا طالما ظلت تلك العقلية الاقطاعية طاغية على خطاباتهم، بل وعلى ممارساتهم وخياراتهم السياسية الدافعة الى الإحباط والانهيار. البشير ومن قبله محمد مرسي -الذي لم ينس تذكير المصريين بأنهم في عهده باتوا يأكلون ثمار المنجا بعد تراجع أسعارها- وغيرهما لا يبدو أن لإنسانية الانسان وللمواطنة موقعا أو مكانة في تفكيرهم، تماما كما هو الحال بالنسبة للعقيد الراحل معمر القذافي الذي لم يتوان عن لعن الليبيين علنا والدّعاء عليهم بقوله في لحظات هستيرية "من أنتم"، أو غيره ممن لم يتردّدوا في الدعوة الى نصب المشانق والمقاصل للمعارضين ... من حق البشير إذن أن يتمسّك، حتى آخر نفس، برئاسة ما بقي من أرض السّودان وأن يفاخر ب"إنجازاته" أمام معارضيه وخصومه ومنافسيه وكل المحتجّين الذين نزلوا الى الشوارع مطالبين بإسقاط نظامه، منكرين عليه "تضحياته الجسام" على مدى أكثر من ثلاثة عقود وهو الذي بات بإمكان مواطنيه أن يفاخروا بأنهم تمتعوا في عهده ب"الهوت دوغ" وما أدراك ما "الهوت دوغ"، ليكشف بذلك عن نظرة الاحتقار والازدراء التي يكنها للشعب الذي يصرّ على مصادرة حقه في الحرية والكرامة وعلى التعامل معه تعامل الراعي مع القطيع... قبل أسبوع كان البشير يستنكر عدم منح الإدارة الأمريكية له التأشيرة للسفر الى نيويورك لإلقاء خطابه في اجتماعات الدورة الثامنة والستين للأمم المتحدة، ولكنه اليوم وبالنظر الى امتداد وتيرة الاحتجاجات في بلاده، اختار الاحجام عن هذا الهدف لمواجهة معارضيه بعد تحذيرات مستشاريه من احتمالات امتداد "تسونامي الربيع العربي" إلى عقر داره ليعصف به كما عصف بغيره... لا سيما وأن مظاهرات ما عرف ب"السكر المر" في السودان كانت بداية نهاية النميري عندما كان في زيارة الى أمريكا ليتولى وزير الدفاع سوار الذهب آنذاك زمام الأمور في أقصر تجربة ديموقراطية عرفها السودان قبل تعاقده مع الانقلابات ... رغم مظاهر الفقر والقهر كان السودان بلدا في حجم قارة عندما تسلمه البشير، قبل أن يوقع قرار تقسيمه إلى سودانين.. شمالي وجنوبي، ويشهد إنزال العلم السوداني في جوبا ورفع راية جديدة محلها.. قبل البشير الواقع الجغرافي الجديد وقبل معه بالتنازل عن أكثر من سبعين بالمائة من ثروة البلاد النفطية التي كانت بين يديه لكنه فشل في استثمارها وإخراج بلاده -التي كانت مطمور القارة السمراء- من دائرة الفقر والجهل والتخلف والاحتياج والامتهان للإنسان، وباتت وسائل الإعلام ترصد عمليات جلد الناشطات في الساحات العامة بسبب ارتداء البنطال وما يعنيه ذلك في نظر قادة البلاد من سياسيين ورجال قانون من "تطاول" و"تجاسر" على الشريعة و"استهانة" بالإسلام ومس واستفزاز وإغواء لمشاعر الرجال في السودان... لا يزال البعض يعتبر أن 30 جوان 1989 كان أسوأ يوم في تاريخ السودان والذي دخل بمقتضاه تحت قيادة الإخوان تجربة الإسلام السياسي وما انتهى اليه ذلك من حروب أهلية وصراعات دموية وسباق للتسلح وتقسيم للبلاد وتشتيت وفتنة لأبناء البلد الواحد ممن باتوا يمتلكون كل أسباب الموت والدمار ولا يجدون الرغيف الذي يمنحهم الأمل.. ومن يدري، فقد يستفيق أهل السودان قريبا على خبر انفصال دارفور ومن بعدها أبيي، ليكتمل بعد ذلك المشهد ويصبح السودان سودانات ويكون من حق البشير حينئذ أن يفخر فعلا ب"إنجازاته" التي ستسعد إسرائيل وهي ترى مخططاتها تتحقق دون حروب ودون عناء وخاصة دون أدنى تكاليف بشرية أو مادية... لا شك أن ما يدفع البشير، كما غيره من الحكام، الى التطاول على الشعوب أنه لا أحد حتى الآن من الزعماء العرب حظي بمحاكمة عادلة يمكن أن تكون درسا لغيره تماما كما هو الحال بالأمس مع الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور الذي حكم عليه بالسجن خمسين عاما بسبب ارتكابه جرائم ضد الإنسانية في بلاده ...