هل يحط زياد غرسة رحاله وهل تكون انطلاقته الحقيقية في إتمام مشروع عمره وهو مرتاح البال، هل يجد أخيرا الهدوء والسكينة والتشجيع الذي يجعله يخصص كامل وقته وتفكيره للإبداع ولا شيء غير الإبداع؟ هل يرتاح من الهموم التي يرزح تحتها العمل الإبداعي في تونس وهي انشغال المبدع بالإداري واللوجستي والتنبير و"التعرقيل" والزميل اللدود والصديق الحسود..؟ هذه المعوقات، تعطل مشروع زياد، وتنفيذه لوصية الكبير الراحل الطاهر غرسة وأحيانا تصل إلى وضع حد لطموحه لان يحفظ ذاكرة تونس وتراثها من المالوف التونسي والموشحات.. تحبطه وتعطّل مسيرته ولكنه ينهض في كل مرة ويحاول من جديد أن يكرّم تونس والطاهر غرسة ومن خلاله خميس ترنان ومن خلالهما يحافظ على قواعد المالوف التونسي ويعلّمها لمن تتوفر فيه الموهبة وحب المغامرة لركوب موجة المالوف الصعب جدا والمحجوز بين جدران تونس وإذا تنفس لا يتجاوز حدود المغرب والجزائر وليبيا، وهذا لان المشارقة مازالوا لا يعرفونه ويجهلون ما يمكن أن يوفرّه المالوف التونسي من نشوة بما فيه من نوبات تتضمن موشحات وأسجال وأشغال وفوندوات بأشعار مختلفة الأغراض كالمدح والغزل والخمريات والمدائح والأناشيد الدينية والابتهالات. أخيرا بيت للمالوف في مدينة الثقافة زياد رغم ما يبدو من نجاح مسيرته ورغم حب الناس له وعشقهم لصوته ولعذوبة ألحانه وعزفه سواء على البيانو أو العود أو الكمنجة وغيرها من الآلات الموسيقية فانه يحتاج إلى الرعاية والتبني الفعلي لا من اجله هو ولكن من اجل تونس ومن اجل تمكينه من القيام بالواجب نحوها ونحو مواطنيه.. وهذا الواجب هو تمرير حب المالوف للأجيال والتحفيز على تعليمه وتدوينه والتأليف في قوالبه المغناة والمعزوفة. ولعله في هذا الإطار - وبعد أن لاحظ بعض الباحثين والمهتمين بالشأن الموسيقي أنه من المحبط أن لا تتوفر مدينة الثقافة على قسم للمالوف التونسي خاصة وانه ليست لنا إلى اليوم كفاءات لتدريس الطبوع والمالوف أو ما يشجع طلبة المعهد العالي للموسيقى بتونس على دراسة هذا الموروث والتخصص فيه- ، تم إحداث ما طمح إليه زياد وحلم بتحقيقه،.."بيت المالوف" بحرص من وزير الشؤون الثقافية ليكون لتونس مخبر لاكتمال أهم تجارب التلحين المعاصرة والمجددة للرصيد الموسيقي التونسي ولتكوين كفاءات لتدريس الطبوع والمالوف التونسي. وسيستمد هذا البيت - حسب تعبير الدكتور محمد زين العابدين - أصوله من الموروث التقليدي في تواصل وتصالح مع واقعه وذاته. وسيكون إحداثا ضاربا في سؤال الهوية الموسيقية التونسية وفي شخصيتها الفنية والشعرية والإنشائية المعاصرة بفضل روادها ومريديها؟. حفلات.. تسجيلات سمعية.. نشر وتوزيع إحداث "بيت المالوف" وإسناد مسؤولية إدارته للفنان زياد غرسة سيكون له دون شك الأثر المميز في النهوض بتراثنا الموسيقي وفي إبراز خصوصياته وإفراده بمكانة مهمة في الساحة الفنية التي تعج بالأشكال والأنماط الموسيقية.. زياد غرسة الذي صرح خلال حفل افتتاح البيت بعرض "درر المالوف 1 " يوم السبت 26 جانفي 2019 بأنه المشروع الذي طالما حلم به وطمح إليه ووعد أمام جمهور غفير جدا غزا مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة بأنه سيعمل على أن يكون عند حسن ظن من آمنوا به وبمشروعه ومن بينهم الدكتور محمد زين العابدين وقال: "سأعمل على استنهاض الهمم للمساهمة في ما يحتاجه المالوف من بحث ودراسة والعمل على جلب اهتمام الأجيال للإقبال عليه وعلى التعريف به في صيغه الأصلية المتوارثة من خلال الحفلات أو التسجيلات الحرفية للنوبات وذلك رهان علينا أن نكسبه جميعا خدمة للثقافة التونسية". ووضح شيخ المالوف التونسي زياد غرسة في نفس الحفل بان هذا البيت سيقدم عرضا شهريا للتعريف بنوبات المالوف التونسي وسيعمل على التوثيق السمعي وتسجيل واستكمال ما ينقص النوبات من أجزاء مكونة لها كالزجل والفوندو والشغل والموشحات والبشارف والسماعيات، إذ يرى زياد غرسة ان أفضل وسيلة للتعريف بالمالوف هي تبني منهجية التأليف الذي يكمل التعليم السمعي الشفوي ويساهم في التوثيق والتدوين. ولأنه لا بد من العمل على التوزيع فسيعمل "بيت المالوف" على نشر مقاطع فيديو على اليوتوب لحفلاته وعلى إعداد منشورات وأقراص مضغوطة وعلى تنظيم ورشات عمل ونوادي تعليم وتدريب للمهارات والمواهب الموسيقية لمختلف الأعمار وأيضا على تمكين الأساتذة والمعلمين من حصص تكوينية في ممارسة الموسيقى الكلاسيكية التونسية والتعاون مع المؤسسات التعليمية بمختلف مستوياتها. ثم والاهم من كل ذلك تشجيع الفضاءات العمومية على بث المالوف في كل الأوقات لتقريبها من أذن السامع. وعد.. عزف.. غنى وهمس لتدفأ القلوب ولان زياد غرسة مسكون بهاجس الاعتراف بالجميل وتكريم الأولين فقد قاد جوقة متكونة من 80 فردا وعزف مع 40 عازفا وغنى مع كورال متكون من 40 مؤديا أمام شاشة عملاقة استعرض فيها "بيت المالوف" أسماء وصور رواد النوبات التونسية ورموزها من مؤلفين وملحنين ومغنين أمثال علي بنواس، عبد الحميد بالعلجية، البشير الصيد، احمد الوافي، سلامة الدفاتي، شبيلة راشد، فتحية خيري، محمد غانم، والسيدة قميحة،، قدور الجزيري، الهادي القحام، حيلو الصغير، نعمة، علية، شافية رشدي، صالح المهدي، صليحة، قدور الصرارفي، الطاهر غرسة، خميس ترنان، محمد التريكي وعبد الوهاب الشعال.. "درر المالوف 1" حفل شاركت فيه بالغناء سيرين بن موسى ومنير المهدي وعزفا على العود وغنى فيه "زياد غرسة"، "مشموم الفل" بتوزيع جديد و"بدموع ساجمة" وهما من تلحين الشيخ "الطاهر غرسة" وقدمت الجوقة استفتاح ومصدر طبع الذيل مع استخبار على آلة العود العربي في طبع الذيل للفنان "زياد غرسة"، وعزف المايسترو أنيس القليبي بكثير من الحرفية والإتقان على الربابة ثم قدمت الفرقة "بطايحي من طبعه" وبرول "خمرة الحب أسكرتني" ثم براول "فيق يا الخمار" و"متى يا كرام الحي" و"حسنك قد اشتهر" و"ودرج" اش دعاني نعشق" وخفيف "تالله اش كانت ذنوبي" وأختام "يا مدير الحمية" و"خدمني سعدي" و"يا اهيل الحمى" لينتهي العرض بختم "الخلاعة تعجبني". ولكن هيهات ان يرضى الجمهور ويقبل بانتهاء الحفل بل أصر وألحّ وطالب بنوبة أضافية، قبل أن يؤديها زياد وجوقته شرط أن يساهم فيها الجمهور لتتحد الأصوات ويقود كورالا بمئات الأصوات التي غامرت بصحتها واحتلت مقاعدها في قاعة الاوبيرا في ليلة شتوية بردها قارص من اجل عيون زياد وتشجيعا لمشروعه الفني فغمر جمال صوته وحسن أدائه وفاؤه وحبه لجمهوره إرجاء القاعة وأضفى الكثير من الدفء على القلوب وأنعش الذاكرة لينتهي الحفل على أمل لقاء قريب.