ما أتاه بحري الجلاصي في "رونديفو 9" مثال حي على ذلك تونس – الصباح التسابق المحموم بين قناتي "التاسعة" و"الحوار التونسي" بالأساس على تخصيص مساحات واسعة في "بلاتوهات" القناتين للبرامج الترفيهية والتي تمتد على مساحات زمنية طويلة وتعتمد "الشو" كتوجه وخط عام لمنوعات من قبيل "اضحك معنا" الذي ينشطه نوفل الورتاني و"رونديفو 9" الذي تنشطه رانيا التومي على القناة الأولى و"أمور جدية" الذي ينشطه علاء الشابي و"يسقط القناع" الذي ينشطه أمين قارة في الثانية، والقاسم المشترك بين هذه البرامج هو اعتمادها على مجموعة من الأسماء تحت "عنوان" "كرونيكور" و"كرونيكوز" وأغلبهم من المسرحيين والممثلين وعدد أقل من الموسيقيين وغيرهم. لكن هناك شبه إجماع من المتابعين لهذه البرامج على ما تبديه من تنافس وتسابق ليس من أجل تقديم مادة نوعية على قدر من الجودة والتميز من حيث المواضيع الهادفة التي تؤثث كل حلقة من هذه البرامج التي تُبث في السهرة وطريقة التناول والطرح وشكل الحضور، وإنما التنافس في مستوى حجم الرداءة والسطحية التي تتقاطع فيها جل هذه البرامج وإن كان الأمر بتفاوت من برنامج لآخر. ويتجلى ذلك بالأساس في نوعية الضيوف الحاضرين من حلقة لأخرى ومن برنامج لآخر والتشابه في طرق الطرح والتناول بداعي الجرأة والحرية في التعبير. فالمتابع للحلقات الأخيرة من هذه البرامج يتبين أنها أشبه ب"لمة" أمام الكاميرا تقول وتفعل ما يزول عن ذهن المتفرج بمضي المشهد وكان كل "لمة" أو مجموعة عاجزة عن تقديم أفضل مما هو موجود ودورها هو ملء الفراغات لا غير، رغم ما يبذله القائمون عليها من مجهودات من أجل إثرائها بحوارات ومداخلات معدة مسبقا ومشاهد مضحكة مصورة ومسائل ومواضيع مسطرة ومتفق عليها. وهو ما جعل مثل هذه "اللمات" تحيد عن غايات الترفيه والإضحاك وبعيدة كل البعد عن تحقيق الإضافة والتميز المنشودة رغم اعتماد جلها على أسماء من مسرحيين وممثلين محسوبين على فن الإضحاك و"الشو" ومنطق "البوز". فضلا عن تسابق هذه البرامج على الفوز بأكبر قدر ممكن من نسب المشاهدة. فالطابع الذي يميزها هو السقوط في "التهريج" والضحك المجاني والسطحية في تناول وطرح بعض المسائل الجادة والحارقة وتمييعها وإخراجها من سياقاتها وما تمثله من خطورة على مستويات اجتماعية وثقافية واقتصادية وإنسانية في حين كان بالإمكان تخصيص كل حلقة لموضوع معين خاصة فيما يتعلق بالمسائل التي تهم الشباب والناشئة وتشريك أحد المختصين في تناول المسالة من وجهات نظر علمية واجتماعية بما يجعل من هذه التلفزة أداة للتوعية والتثقيف والتربية والتعليم وليس مجرد وسيلة للتهريج والتمييع والتعويم للقضايا. ولعل في توجه مثل هذه البرامج لتعويم و"تتفيه" ما هو جاد وهام وتحويل "وجهات" تناول وطرح بعض القضايا والمسائل الجادة وتمييعها دون وعي بحجم وفظاعة مثل هذه الممارسات في حق الناشئة والشباب بصفة خاصة والمجتمع والبلاد بشكل عام، من العوامل التي جعلت البعض يستنكر مثل هذه البرامج ويتهمها بالانخراط في أجندات تدميرية وبلعب أدوار معادية لانتظارات المشاهد من المشهد السمعي البصري بشكل خاص ويرجع ذلك لعدم القدرة على التعاطي بايجابية ونجاعة، مع مكسب الحرية في التعبير والديمقراطية واختيار خط "اللهو المجاني" واستسهال "فن الترفيه" وتقديم مادة تلفزية غير جادة. فضلا عن مراهنة مثل هذه البرامج على نوعية معينة من الضيوف واغلبهم لا يرتقي ليكون مثالا ونموذجا يتباهى به أو يُنصح بالنسج على منواله. الأمر الذي يجعل البعض يتطلع إلى تدخل "الهايكا" كهيكل تعديلي ورقابي لحماية المشاهد من التلوث البصري والسمعي بعد أن أصبحت مثل هذه البرامج تشكل خطرا على المشاهد من خلال ما تروج له من ثقافة العنف والكراهية والتحيل والتواكل و"المروق" والقفز عما هو متعارف عليه في مجتمعنا من تقاليد ونواميس. وهو ما تتناقله شبكات التواصل الاجتماعي من مواقف واراء حول ما يعرض في هذه البرامج. لذلك استنكر عدد كبير من الناشطين في الحقل الثقافي بشكل خاص حضور وإطلالات كل من الصادق حلواس والشاذلي العرفاوي ونعيمة الجاني وأحمد الأندلسي وغيرهم في برنامج "اضحك معنا" أو بسام الحمراوي وكريم الغربي وبية الزردي وغيرهم في "أمور جدية" وانتقدوا مسالة قبول هؤلاء المشاركة في مواقف أقل ما يقال عنها إنها اقرب للتفاهة والسطحية واستبلاه المشاهد على اعتبار أنها لا تقدم أي إضافة أو متعة لصاحبها والمتفرج على حد السواء ثم أنها تسيء لصورة وحضور المبدع التونسي بقطع النظر عن هؤلاء المعنيين بالحضور. وفي جانب آخر من المؤاخذات على مثل هذه البرامج وعدم قدرة المشاركين فيهاعلى مجاراة "النسق الاعلامي" وتعويض الصحفي في الحوار مثلا، يكفي الاستشهاد في هذا الجانب بالحلقة الأخيرة من برنامج "رونديفو9" على قناة التاسعة التي استضافت البحري الجلاصي، المعروف "بشطحاته" السياسية ومواقفه الغريبة و"الصادمة" وبرز ب"انفلاته" في البرنامج خاصة أن مقدمته كانت عاجزة على السيطرة على مجرى الحوار، فلم يُترك له المجال ليفرغ ما بجعبته من معلومات ومعطيات خطيرة عن علاقته بحزب حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي وبعض قياداتها وكشف عن جوانب من المؤامرات والمخططات خلال نفس الحلقة. كما لم يسمح لبقية الحضور بالتدخل لمحاورته او الرد عليه رغم محاولات مقداد السهيلي التدخل من حين لآخر، رغم انه ليس إعلاميا. وبدا "هائجا ثائرا" غير منضبط في دفاعه عن أهدافه في الترشح لرئاسة الجمهورية وفي تهجمه على الجميع لو لم تنه المهزلة "عركته" مع رؤوف بن يغلان وتدخل البعض لإخراجه من "البلاتو". الفرجة المزعومة لتثبت التجربة أن الممثل أو المسرحي الذي يصنع الفرجة في المسرح أو الأعمال الدرامية ليس بالضرورة قادرا على تأثيث البرامج والمادة التلفزية وشد المشاهد وإقناعه مهما اختلفت الأساليب والأدوات التي يعتمدها. فمثل هذه البرامج ومشاركة مثل هذه الأسماء في حاجة للمراجعة وإعادة النظر والهيكلة من أجل أن تكون ذات جدوى وهادفة على أكثر من مستوى بما يحقق المتعة والإفادة للمشاهد من ناحية ويجعل منها "حمّالة" لجانب من مشاريع البناء والتأسيس على مستويات اجتماعية وثقافية وفكرية وجمالية خاصة أنها تمتد على مساحات زمنية هامة وقادرة على التغيير والدفع للحياة. خاصة أن البعض لا زال يعتقد أنه بالمراهنة على مثل هذه النوعية من المشهدية المبنية على "الخصومات" و"الغرائبية" والضيوف من صنّاع "البوز" يمكن أن تحقق برامجهم أكبر نسب مشاهدة ومن ثمة داعمين ومستشهرين، ونسي هؤلاء القائمون على مثل هذه البرامج والمسوقين للأفكار المشابهة لها أن نسبة هامة من التونسيين لا تصنف في خانة الأغبياء والسذج. لكن جل هذه البرامج في شكلها الحالي خارجة عن "النص" ولا تستجيب في شكلها ومضمونها لما هو مطلوب في هذه المرحلة خاصة أن الجميع يعلم أن إضحاك التونسي اليوم لم تعد مهمة سهلة واستبلاه المشاهد بمواقف ومشاهد سطحية تعتمد الإيحاءات و"البوز" لم تعد تنطلي أو تروق للجميع في وقت لم تعد المعلومة والخبر هدفا من مثل هذه المساحات التلفزية.