بقلم: الدكتورة سلوى العباسي متفقدة عامة للتعليم الثانوي تلقت "الصباح نيوز" مقال رأي من الدكتورة سلوى العباسي متفقدة عامة للتعليم الثانوي حول ما فوجئت به الأوساط التربوية خلال إجراء امتحانات الأسبوع المغلق الحاليّ باقتراح فرض في مادّة الفيزياء لتلاميذ إعدادية نموذجية بجهة القيروان تضمّن سؤالا يطلب إكمال الآية القرآنية. وفي ما يلي نص المقال: فوجئت الأوساط التربوية خلال إجراء امتحانات الأسبوع المغلق الحاليّ باقتراح فرض في مادّة الفيزياء لتلاميذ إعدادية نموذجية بجهة القيروان تضمّن سؤالا يطلب إكمال الآية القرآنية : فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ " (الأنعام :125). وكان تناشر صورة الاختبار على صفحات التّواصل الاجتماعيّ مثيرا ضجّة وردود أفعال متباينة بين مصدوم مستهجن مستاء رأى في الأمر "دعششة" للفيزياء وأسلمة للمواد العلميّة وبين مبارك مشجّع رأى في ذلك إبداعا وتجديدا وعدم تناقض بين ما يدرّس في الموادّ العلميّة وبين ما يمكن أن يدرسه التلميذ في مواد اجتماعية إنسانيّة أو أدبيّة أخرى. والمتمعّن في الخلفيّة التي دفعت طارح السؤال إلى مطالبة التلاميذ بالاستشهاد بآية قرآنية ربّما رغبته الملحّة في توظيف الشاهد القرآني من أجل إثبات حقيقة علميّة تتّصل ب ظاهرة "الضّغط الجوّي" (La pression atmosphérique) وما يعتري عمليّة التنّفس من صعوبة أو ضيق " و"حرج" عند صعود الأعالي والمرتفعات نتيجة انخفاض نسبة الأكسيجين في الرئتين والدمّ. ومبتدع السؤال المثير للجدل يبدو وأنه قد استأنس في ذلك بآراء بعض المفسّرين المتأخّرين القائلين بوجود إعجاز علميّ في هذه الآية ليقدّمها إلى تلاميذه موضوع اختبار للحفظ والتوظيف. وبقطع النّظر عن مدى احترامه مواصفات الفرض في التعليم النموذجي فإن المسألة تستحق الفصل في ما يتعلّق بقضية الإعجاز العلمي في القرآن وسبل استثماره في المدرسة وتستدعي خاصّة البحث في علاقة الموضوع بإبستمولوجيا المواد وهويّة التخصّصات المدرّسة علمية وغير علميّة. فمن الواضح أنّ مجمل التفاسير والشّروح قديمها وحديثها التي اجتهد أصحابها في تأويل معاني الآية المذكورة ظاهرا وباطنا على غرار آيات وسياقات أخرى هي اجتهادات فيها مذاهب وفروق واختلافات لغويّة معجمّية وبلاغيّة، من ذلك تفسير الطّبري المشرقيّ مثلا الذي رأى أنّ "الحرج أشد الضيق وهو الذي لا ينفذ من شدة ضيقه ،وهو هاهنا الصدر الذي لا تصل إليه الموعظة ولا يدخله نور الإيمان لِرَيْنِ الشرك عليه، وأصله من الحرج والحرج جمع حرجة وهي الشجرة الملتف بها الأشجار لا يدخل بينها وبينها شيء لشدة التفافها بها". ومن ذلك أيضا ما اعتبره الطّاهر بن عاشور التونسي من إشارة الآية إلى الحقيقة على قدر ما تحتمله من المجاز ،ذلك أنّ "الصّاعد يضيق تنفسه في الصعود، وهذا تمثيل هيئة معقولة بهيئة متخيّلة لأنّ الصّعود في السّماء غير واقع، والسّماء يجوز أن يكون بمعناه المتعارف ويجوز أن يكون السماء أطلق على الجوّ الذي يعلو الأرض".. ولا ننسى أنّ مفهوم الإعجاز في حدّ ذاته لا يزال موصولا بطبيعة فهم العلماء المفسّرين أنفسهم سبل تأويل اللغة القرآنية، فما يعرف ب"الإعجاز البيانيّ" ليس ما يفهم من تفاسير المفسّرين وتأويلاتهم في ما يعدّ" إعجازا علميّا" ،إذ يذهب المفسّر المصري المعاصر محمد محمود حجازي إلى إقرار أنّ "ما ينظر إليه من حيث الإعجاز البياني" يختلف عمّا، " ينظر إليه بحسب ما يستنبط فقهياً.. والحَكَمُ هو النص القرآني المعجز، لا كلام العلماء". ومن ثمّة، فالمسألة خلافيّة لدى الفقهاء والمفسّرين قبل أن تكون مقبولة محمودة أو مستساغة لدى العلماء والفيزيائيين والمختصّين في تعليميّة الفيزياء وواضعي المناهج ومواصفات الاختبارات. فكيف يمكن إدراج ما هو احتمالي غير يقيني مبذول للتأويل المختلف والقراءات المتعدّدة في سياق اختبار مادّة علميّة كالفيزياء موضوعها" علم الطّاقة والمادّة والحركة والتفاعلات بين بنية المادّة ومحيطها الفيزيائي" ومن خصائصها أنّها لا تتطرّق إلى مواضيع غيبيّة أو ميتافيزيقيّة مفارقة للكون الفيزيائي المدروس؟ هل من المعقول إقحام شاهد نقليّ من النّصوص الدينيّة المعدّة للقراءات المتعدّدة في مناقضة تامّة لأهداف تدريس الفيزياء وفي مقدّمتها دفع المتعلّمين إلى التخلّص من الأحكام المسبقة والمعتقدات والأوهام وكلّ ما لا يشكّل حقيقة علميّة تبلغ بالملاحظة والتّجريب والاستكشاف والاستقصاء؟ الأمر كذلك يبدو مناقضا لروح التّعامل الفقهي التفسيريّ نفسه مع القرآن الذي لا يمكن أن يطرح موضوع تشكيك وتشريح وتحليل بالمنطق الفيزيائي الذي تتعامل به المادّة مع بعض السياقات الدّاعية إلى التّفكير وإبداء الرأي. إذن فالاختبار المقترح يضعنا جميعا في وضع مشكليّ مأزقيّ يتطلّب منّا حسما مقنعا لممكنات توظيف النصّ الديني في شبكة التعلّمات داخل المنظومة التربوية التونسيّة ويستدعي معالجة بيداغوجية للمشكل من جذوره قبل أن يتحول إلى سبب مباشر لاتخاذ إجراءات عقابية أو تحقيقية مع الأستاذ كما لجأت إلى ذلك مندوبية القيروان. وجب في اعتقادي أن نتخّذ الحادثة ذريعة لتأكيد مدى حاجة المدرسة التونسية ومناهجها وممارسات مدرّسيها ومعايير تدريسهم وتقييماتهم إلى نقاش موسّع وإلى إعادة نظر في تصوّراتنا ومفاهيمنا ومواقفنا حتى لا تتسع رقعة الاختلافات أكثر وتتحول المدرسة الى ساحة معارك بالدّين أو ضدّه. لابدّ من إقرار منهجية إصلاح تربويّ متكاملة راسخة الخلفيات واضحة المرجعيات والمفردات والغائيات نتعرّف من خلالها مشروع المدرسة التي نريد ونتقصّى ملامح المتخرّج الذي نطمح إلى بناء معارفه وتكوين شخصيته في الحاضر والمستقبل. ونحن نريده مشروعا مجتمعيات تربويا قبل كلّ شيء من شأنه أن يوحّد ولا يفرّق. لم يعد هناك مبرّر مقنع لتأجيل تنفيذ مخرجات "المنهاج الدراسي العام" بديلا عن البرامج الحاليّة لأنّ فلسفته المنظوميّة الجديدة في هندسة التعلّمات تقوم على فكرة المجالات، لتبرهن على أنها أقدر من الرؤى البرمجية التقليدية للمقررات على أن تطرح بعمق وتمعّن إشكالات إبستمولوجيا الموادّ التي ندرّسها والعلاقات الوظيفية بينها في مستوى الأهداف والمضامين والتّمشيات والكفايات دون سقوط في مهوى التّجاذبات والمناكفات الإيديولوجية تلك التي يسعى كلّ منخرط فيها إلى فرض رؤيته على التّعليم والمدرسة. المنهاج هو ملجؤنا الأوحد لمجابهة أخطار تسييس للمدرسة من منطلق اعتباره مكانة الموادّ أجمعها و حاجة المتعلّم التونسي إليها دون تفرقة أو تمييز في مسار تكوين شخصيته بكلّ أبعادها الوجدانية الروحية المعرفية العلائقية العملية . وذلك في نطاق مبادئ التعلّم للجميع وبيداغوجيا الإنصاف ومدرسة المواطنة والمعرفة والقيمة والمعنى. المنهاج توجه إصلاحي رائد رأى فيه خبراؤه البيداغوجيون حلولا ناجعة وإجابات وجيهة عن أسئلة ما يجب تدريسه وما لايجب وكيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ وترسيخه في البرامج والمقاربات التعليمية وفي امتحاناتنا وأنظمة تقييمنا يقتضي إعطاءه الشرعية القانونية أولا بتغيير القانون التوجيهي الحاليّ للتربية ، ليتطلّب ثانيا تكثيف التّكوين والاطلاع على فلسفة المجالات وتنافذ التخصصات وتعابرهافي إطار الكفايات وتعدّد أنواع الذّكاء مّما يتنافى ومنطق تدافع المواد أو تقاصيها وانعزالها عن بعضها البعض ويتعارض بنفس المستوى مع منطق التداخل المخلّ والتناقض المربك للتخصّص الأصلي للمواد أو ما يعرف بالهويّة التعلميّة القائمة على مبادئ التخصّص مع التنوّع والتمايز. كلّ الخشية مستقبلا من أن تتسرّب أزمات السياسة والمجتمع وصراع الأحزاب إلى المدرسة التونسيّة فتختلط المسائل والأوراق وتطغى الممارسات الشعبوية والشطحات الإيديولوجية على مواثيق التربية وبنود عقود التعلّم والتعليم ،لأنّ من يطمح إلى تسييس المدرسة إنما تحرّكه نزعة استحواذ والتّمكين أو الاستئصال والاستفراغ والتّحويل، بينما المدرسة عنوان وحدة المجتمع لا مجال سقوط في هوة الصراعات التي تحرّكها للأسف منذ الثورة دوافع بعيدة كلّ البعد عن التربية.