- توجه نحو القضاء على المنافسة وتوحيد الذائقة رغم شبه «الانتعاشة» التي حققتها ميزانيات جل المهرجانات الكبرى في تونس في الدورات الخاصة بهذا العام، مقارنة بما عرفته من تراجع في ميزانياتها في السنوات الأخيرة لاسيما في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها بلادنا في نفس الفترة وتراجع قيمة الدينار التونسي، فإن استفهامات كثيرة تطرحها برامج مهرجانات هذه الصائفة خاصة بعد أن كشفت جلها عن كامل برامجها، من قبيل هل حادت هذه المهرجانات عن أدوارها وشكلها وتوجهها المعتاد بالتسابق للتعاقد مع ألمع نجوم الفن والعروض «الضاربة» واللامعة في الساحة وطنيا وعربيا وعالميا بما يدفع لخلق روح التسابق والتنافس بين المهرجانات في كسب ود النجوم من ناحية والجمهور من ناحية أخرى؟ ومدعاة طرحها هو التشابه الكبير المسجل في برامجها على نحو أصبح المشهد أقرب لمهرجان موحد لكنه متفرعا في أكثر من منطقة وجهة وتحت عناوين مهرجانات مختلفة. وهو ما يدفع للتساؤل عن السبب الكامن وراء هذا التنميط والتطبيع. فالمطلع على برامج جل مهرجانات هذه الصائفة يقف على حقيقة نسخ نفس الأسماء والعروض المبرمجة على نحو أصبح فيه الوضع يسير نحو «تنميط» المشهد المهرجاناتي، ومن ثمة الدفع نحو توحيد الذائقة و«المنتوج» على أوسع قاعدة جماهيرية، على خلاف ما يدعو له أهل الثقافة والفنون من ناحية ودفعت نحوه عدة جهات ناشطة في المجتمع المدني من ناحية ثانية في إطار المراهنة والعمل على تفعيل شعار «الثقافة والإبداع من أجل الحياة» وما رافق كل ذلك من برامج ومشاريع تم رصد ميزانيات ضخمة من أجل تكريسها في كامل جهات الجمهورية لاسيما في ظل ما تزخر به بلادنا من كفاءات ومبدعين ومختصين في مختلف المجالات الثقافية والفنية بما في ذلك قطاع الموسيقى الذي يسجل بدوره انفتاحا على مختلف الأنماط والألوان القادرة على صنع مشهدية فرجوية كفيلة بصنع الفرح وتحقيق مطالب الترفيه والأجواء الاحتفالية على مستويات محلية وجهوية ووطنية وأيضا دولية وعالمية. فكانت جل مهرجانات هذه الصائفة تكريسا لمفهوم «دفع بالجملة» لنفس العروض والأسماء في جل المهرجانات. و يكفي التوقف عند برامج المهرجانات الكبرى في تونس ليتبين الجميع أن التنافس والعمل على الاستجابة لأذواق الجماهير بضمان برامج تضم الأسماء اللامعة والرائدة في الموسيقى والعروض الفرجوية الجديدة أو الحصرية أصبحت من الشروط والمسائل غير المطروحة في المهرجانات التونسية اليوم. ولعل أبرز مثال على ذلك برنامج مهرجان قرطاج الدولي في دورته الخامسة والخمسين. وهو برنامج أقل ما يقال عنه أنه لا يرتقي إلى ما هو منتظر ويفترض أن يكون لبرنامج «شيخ» ورائد المهرجانات التونسية والعربية خاصة في ظل الغطاء المالي الذي توفره له وزارة الشؤون الثقافية فضلا عن هبّة عدد من المؤسسات الكبرى والمستشهرين لدعم المهرجان. إذ سجلت هذه الدورة قطعا مع التفرد والعروض الحصرية والجديدة ومشاركة «النجوم» ورموز الإبداع باعتبارها من الثوابت والخيارات والمقاييس التي صنعت مجد هذا المهرجان وجعلته متقدما إقليميا ودوليا وكان مطمح وحلم كل الفنانين والموسيقيين في تونس والعالم العربي تحديدا، لكن القائمين عليه اختاروا له توجها مختلفا اختزله برنامج أقل ما يقال عنه أنه غير مغري مما يجعله يتموقع ضمن طابور التظاهرات والمهرجانات التي لا تخرج عن سياق «العادي» وكأن الهام في الأمر هو تنظيم مهرجان في موعده ومكانه المعتادين. نقل وتكرار فالعروض الموسيقية والفنية والمسرحية التي «تتباهى» جل الهيئات المديرة للمهرجانات الكبرى في دوراتها الخاصة بهذه الصائفة، هي تقريبا نفسها مع اختلاف في توزيع البرمجة بقطع النظر عن القيمة الفنية ومدى استجابتها لأذواق الجماهير المتعطشة للمهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية في سهرات الصيف الطويلة. والاختلاف الوحيد يكمن في قيمة التذاكر و»الكاشي» التي تختلف من مهرجان لآخر حسب إمكانيات وميزانية كل واحد منها. إذ يكفي الاستشهاد في هذا السياق بوجود نفس الأسماء في مواعيد متباعدة في خارطة المهرجانات على غرار صابر الرباعي الذي سيختتم مهرجاني قرطاجوبنزرت ويشارك في مهرجان سوسة الدولي ومهرجانات أخرى رغم تشكي مدير مهرجان قرطاج الدولي من إصرار هذا الفنان على الحصول على أكبر «كاشي» إضافة إلى لطفي بوشناق الذي يشارك بدوره في نفس المهرجانات كقرطاج وبوقرنين إضافة إلى عرض «الزيارة» الذي يواصل تصدره قائمة العروض الأكثر طلبا من المهرجانات التونسية للموسم الرابع على التوالي ليسجل هذا العام عرضين في برنامج عديد المهرجانات خاصة أنه أكثر عرض تونسي يحضر في المهرجانات هذا العام. كما هو الشأن تقريبا للفنان زياد غرسة الذي يحل ركبه في عدة مهرجانات رغم تخلفه عن ركح المسرح الروماني بقرطاج هذه الصائفة. ولعل مبرر القائمين على المهرجانات في التعاقد مع نفس الأسماء هو أنهم من الفنانين التونسيين الذين حافظوا على نسق العمل والإنتاج مما أهلهم للبقاء في المشهد الفني. لكن الملفت في بقية البرامج المستنسخة من بعضها البعض هو تكرار نفس الأسماء والعروض في أكثر من مهرجان وهو ما يطرح بدوره عدة تساؤلات، رغم إجماع أهل الثقافة والفن ونسبة هامة من المتابعين لمجريات الساحة الفنية عربيا على أن هذه الأسماء لم تقدم أعمالا تضعها في صدارة الفنانين والمطربين سواء في أوطانهم أو عربيا، في المقابل تسجل حضورها بقوة في المشهد المهرجاناتي في تونس لعل أبرزها راغب علامة وكارول سماحة وعاصي الحلاني ومروان الخوري من لبنان حيث يشارك هذا الأخير في مهرجاني قرطاجوبنزرت في عرض بمعية ألفة بن رمضان التي جمعته بها انتاجات مشتركة، لكنه يشارك بمفرده في تقديم عروض بسوسة والحمامات وغيرها من المهرجانات الأخرى. ونفس الأمر ينسحب على الفنانة السورية فايا يونان والفنان الفلسطيني الأردني الصاعد أحد خريجي برامج صناعة النجوم، أدهم النابلسي الذي يدخل المهرجانات التونسية للمرة الأولى من الباب الكبير إضافة إلى المغربي كريم السحماوي الذي يدخل على خط المهرجانات التونسية عبر الحمامات وبوقرنين ليلتحق بحاتم عمور أو عرض الفنانة أمينة فاخت التي ستحط الرحال بعرض لا جديد فيه بكل من الحمامات وصفاقس ومهرجانات أخرى وهو نفس الأمر مطروحا بالنسبة للفنانة التونسية المقيمة بالمهجر غالية بن علي واللبناني زياد الرحباني الذي يقدم عرضين في مهرجان الحمامات الذي سجل بدوره تراجعا ملفتا بالنظر إلى برنامج دورته 55. عروض أخرى تتنقل بين قرطاجوسوسة والحمامات وبنزرت وصفاقس وقابس وبوقرنين وعدة مدن أخرى في إطار المهرجانات الصيفية وتتمثل في عروض مسرحية من نوع «ستاند آب» التي استفاد أصحابها من إطلالتهم التلفزية في السنوات الأخيرة على غرار «بيغ بوسا» لوجيهة الجندوبي و»لا هكة لا هكة» لنضال السعدي وأيضا لطفي العبدلي أو عرض «الديو شو» لكل من بسام الحمراوي وكريم الغربي فضلا عن مسرحية «ولدو أمو» لنعيمة الجاني و»ولد شكون» لجميلة الشيحي وغيرها من الأعمال الأخرى التي ستؤثث سهرات عدة مهرجانات في هذه الصائفة. وقد أثارت هذه الاختيارات حفيظة عدد من المسرحيين الذين استنكروا تغييب الفن الرابع الحقيقي عن المهرجانات مقابل التوجه لبديل لا يرتقي لتعويضه. ولعل ما يشد في بعض برامج هذه الصائفة وفي نفس خط نسخ البرامج وعدم الاجتهاد للتنويع والقطع مع التشابه والتقليد هو دخول السينما على خط السهرات الصيفية وذلك من خلال وجدود فيلم «بورتو فرينا» للمخرج ابراهيم لطيف في أكثر من مهرجان نذكر من بينها مهرجاني بنزرتوسوسة الدوليين. تغير التقاليد والمقاييس بقطع النظر عن تبريرات وتعلات القائمين على المهرجانات في تفسير هذا التوجه لتنميط المهرجانات الصيفية، فإن تداعيات ذلك السلبية على الفعل والمشهد الثقافي في أبعاده الثقافية وأهدافه الترفيهية والتجارية من العوامل التي تدفع الجميع لمراجعة مثل هذا التوجه وما يكشفه من خطورة للوضع اليوم في ظل سيطرة متعهدي الحفلات ومديري أعمال بعض الأسماء على الفعاليات الثقافية خاصة في ظل «الفراغ» الذي تشكوه الساحة الوطنية ومواصلة الفنانين التونسيين العزوف عن الإنتاج الجديد والاكتفاء بترديد واستغلال التراث أو أعمال عمالقة الطرب، مقابل ارتفاع تكاليف بعض الفنانين الذين يصنفون ضمن «الكبار» عربيا على غرار كاظم الساهر ونجوى كرم وهاني شاكر بقطع النظر عن نجوم الموسيقى والغناء العالميين الذين شكلوا لسنوات مصدر نجاح وتفرد مهرجاناتنا وفي مقدمتها مهرجان قرطاج الدولي على غرار «أزنافور» ووردة الجزائرية وصباح فخري ونجاة الصغيرة وفيروز والشاب خالد وجمال دبوز وغيرهم. ولكن هذا لا يشفع لهيئة مهرجان قرطاج الدولي بالأساس العجز عن النأي بالمهرجان عن السقوط في النمطية مع بقية المهرجانات بما يحيد عن أسسه وتضع حدا لألقه بمجاراة «هوى» نفس متعهدي الحفلات دون قيد أو شرط يضمن لهذا المهرجان العريق تفرده وخصوصيته في برمجة عروض وأسماء خاصة به بما يضمن له الإيرادات المنتظرة ويحافظ على موقعه وألقه كحوافز مغرية لنجوم الفن في العالم وللجماهير الباحثة عن النوعي. نزيهة الغضباني