تونس الصباح : قد لا يكون موسم الصيف افضل المواسم لاستكشاف الجزء الشمالي من البلاد التونسية وما تخفيه طبرقة وشمتو وبيلاريجيا وكذلك جزيرة جالطة من خصوصيات طبيعية وكنوز اثرية تاريخية عظيمة ضاربة في القدم لم تبح بعد بكافة اسرارها الدفينة.. الا ان الاكيد انه عندما تتاح الفرصة لاستكشاف هذه المنطقة في أي موسم فان النتيجة ستكون دون ادنى شك مزيدا من القناعة بان هذه الارض الطيبة تحمل في باطنها من الاساطير والثروات الطبيعية والبشرية ما يدفع الى عدم التفويت من اقتناصها والاستفادة منها.. والحقيقة انه رغم وعورة الطريق وكثرة المرتفعات وحرارة الصيف فان المغريات التي قد تدفع الى استكشاف مختلف مواقع المنطقة تكاد لا تحصى ولا تعد.. سواء بالنسبة للباحثين وخبراء الاثار وطلبة علوم التاريخ والحضارات القديمة، كما بالنسبة للاطفال والتلاميذ من مختلف الاعمار والمستويات الذين قد يجدون فيها اكثر من سبب يجمع بين المتعة والافادة... الى جانب ذلك فان المنطقة تبقى بالتاكيد قريبة من جيوب وامكانيات كل تونسي وان كانت بعيدة عن تفكير الكثيرين لعدة اسباب قد تكون مرتبطة بغياب المعلومة المطلوبة وبصعوبة المنطقة وكثرة مرتفعاتها بما قد لا يشجع على ان تكون وجهة سياحية في الصيف القائظ. وباستثناء جزيرة جالطة التي تحتاج الى ترخيص ليس بالهين الحصول عليه فان بقية المواقع تظل ذراعاها مفتوحة لاستقبال الراغبين في استكشاف معالمها الخفية. على بعد ثماني كيلومترات شمال مدينة جندوبة التي احتفظت باسمها البربري الذي يتكون من معنيين الاولي «جن» ومعناها السوق والثانية «دوبة» ومعناها القمح وتحديدا على سفح جبل ربيعة تقع مدينة بلاريجيا اشهر المدن في العهد القرطاجيني والروماني والبيزنطي حيث يرقى تاريخ هذه المنطقة الى اواخر القرن الخامس وبداية القرن الرابع ولايزال البعض من اثارها الفسيفسائية الرومانية يحكي جوانب من حياة عصرها من خلال ما بقي من اثار وتماثيل وبيوت ارضية ومن خلال الكنيسة والمسرح هناك... وغير بعيد ايضا عن بيلاريجيا وعلى بعد عشرين كيلومترا غرب جندوبة تنتصب شمتو شامخة بآثارها وبالمقبرة النوميدية التي تروي رسومها حكايات الاهالي مع القرابين والآلهة وحرصهم على ارضائها وتجنب غضبها ونقمتها.. ويمكن للمتامل في الرسوم المتبقية على الهضبة المقدسة والجسر الحجري على وادي مجردة متابعة بعض من رسوم لم تندثر بعد عن طقوس وعادات مرتبطة بتقديم القرابين.. ولا شك ان المتحف الاثري بشمتو يبقى تحفة فنية راقية اجتمعت في تاسيسه جهود وافكار وتمويلات تونسية وألمانية ليقدم لزائريه بسطة تاريخية موثقة بتحف فنية واثار ومكتشفات حديثة تعود الى القرن الخامس قبل الميلاد تنقل خصوصيات تلك المرحلة التاريخية وتنقل الكثير عن الوسائل الفلاحية والزراعية وطريقة السقي والحياة اليومية للمنطقة وما تتميز به من انواع الرخام الشهيرة. وتبدا الرحلة بين اروقة المتحف المضيء بهندسته العصرية انطلاقا من الماضي البعيد وتحديدا منذ اكثر من ستمائة وخمسين مليون سنة عندما كانت تونس تحتل في المعمورة الموقع الحالي لمنطقة نيويورك على حد مرافقنا السياحي "سليم" الذي كان يبدي الكثير من الحماس في حديثه عن المنطقة وما يتفرد به اهلها من خصائل متوارثة كانت ولا تزال وراء تنمية ثقافة حب الاطلاع والمعرفة لدى الزائرين من الاجانب والباحثين عن اسرار الحضارات والشعوب ومن ابرز المعالم ضريح اقامه الملك النوميدي ماكيبسا لوالده ماسينيسا... والحقيقة ان استكشاف المنطقة لا يمكن ان يكتمل بدون اطلالة على جزيرة جالطة التي عرفناها ايام الدراسة من خلال صور الزعيم الراحل الرئيس الحبيب بورقيبة وهو جالس على تلك الصخرة الشهيرة في منفاه البعيد ايام الاحتلال.. والوصول الى جزيرة جالطة انطلاقا من ميناء طبرقة قد يستغرق في احسن الاحوال ساعتين اذا حالفتك الاحوال الجوية ولم تسيطر عليك اعراض آلام البحر المزعجة.. ومن بعيد ستطل عليك جالطة اكبر جزر ارخبيل جالطة الذي يتكون من ست جزر صغيرة قبالة الساحل الشمالي للبلاد التونسية وهي جالطة وجاليطون والفوشال وجزر الكلاب الثلاث على بعد ثمانين كيلومترا عن مدينة بنزرت ونحو ستين كيلومترا شرقي مدينة طبرقة.. ويبلغ طول الجزيرة 5,3 كيلومتر ولايتجاوز عرضها الثلاثة كيلومترات.. وجزيرة جالطة محمية طبيعية ويمنع الصيد حولها ومن خلال مكتشفاتها يبدو ان الجزيرة كانت آهلة بالسكان في العصور القديمة رغم مرتفعاتها الصعبة.. وفي العصر الحديث فقد سكنها منذ القرن التاسع عشر نحو مائتي ايطالي كانوا يقيمون في اربعين مسكنا ولهم كنيسة لا تزال قائمة ومدرسة قبل ان يرحلوا عنها بعد قرار الحكومة التونسية تأميم اراضي المعمرين قبل اربعين عاما.. ولعل ابرز ما ارتبط بجالطة انها كانت منفى الزعيم بورقيبة على مدى سنتين منذ 21 ماي 1952 الى 20 ماي 1954 وقد كان يدوّن فيها رسائله الى الوطنيين.. واليوم فقد يستغرب الزائر ان البيت الذي كان مأوى للزعيم الراحل لم يبق منه غير لوحة خارجية تشير الى تاريخ نفي بورقيبة اليه وقد كتب على اللوح المعلق على جدار البيت "في هذا البيت فوق هذه الصخرة قضى المجاهد الاكبر الرئيس الحبيب بورقيبة 743 يوما اسيرا ومن هنا رغم العزلة كان يغذي لهيب ثورة التحرير المقدسة ويعلم ابناءه المجاهدين التضحية والصمود" والبيت اليوم يأوي احدى العائلات القليلة التي تقيم بالجزيرة ضمن الاعوان المنتشرين هناك.. اما الصخرة فيقول من بقي هناك بانها قد تدحرجت وسقطت ولم يبق غير موقعها الذي من شانه ان يثير في الاذهان اكثر من سؤال حول امكانية احياء ذلك الموقع واعادة ترتيبه ليكون متحفا خاصا بمرحلة معينة من مسيرة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة.. حتى اذا ما فتحت جالطة يوما سواحلها وميناءها للسياحة الداخلية او الخارجية كان موقعا سياحيا وصفحة من صفحات تاريخ تونس التي لا تزول. الى ان يحين التفكير في ذلك فان جالطة اليوم وبالاضافة الى بعض اشجار الكروم فان الجزيرة تظل مرتعا لبعض الحيوانات كالماعز والغنم.. ولا شك ان جزيرة جالطة بموقعها الاستراتيجي ومكانتها التاريخية في حاجة لمزيد الاهتمام ولم لا اعادة التفكير في كيفية الاستفادة من فتحها امام الطلبة والجامعيين الذين يحتاجون للاطلاع عن قرب عن خصوصياتها الجيولوجية وعدم الاقتصار عما يقدم لهم من وثائق او دراسات مكتوبة، كما اسرت الينا استاذة جامعية كانت تصطدم في كل مرة برفض السلطات المعنية تلبية طلبها السماح للطلبة بزيارة الجزيرة ودراسة خصوصياتها الطبيعية وصخورها... كثيرة هي اذن الفرص المتاحة في رحاب منطقة الشمال الغربي التي تنتظر البحث عن تفعيلها وفتح مزيد الافاق والمجالات امام ابناء الجهة لخلق مزيد من فرص العمل والمشاريع الانمائية والاستثمارية التي ينتظرها الكثير من شباب المنطقة ممن يبحثون عن تحسين وتطوير ظروفهم الاجتماعية القاسية في احيان كثيرة... المشاريع الانمائية والاستثمارات..