إن كانت ممارسة السالسا التي هي موضة هذه الأيام وفق ما نقرأ في مختلف الكتابات والتعريفات لهذا الشكل الموسيقي الراقص، إن كانت ممارستها دليلا على الإنخراط في العصر فإن جمهور مهرجان الحمامات الدولي يكون ربما حتى متجاوزا للعصر. يكفي أن تكون من بين الحضور في سهرة الفنان الفنيزويلي «أوسكار داليون» ليلة الخميس بالمركز الثقافي الدولي بالمدينة لنقف على ذلك. الجمهور التونسي أظهر أنه لا يواكب الموضة فحسب بل يتفنن فيها أيضا. كان أغلب الحضور خاصة لمن هرعوا إلى الصفوف الأمامية بالمسرح من هؤلاء الذين يتقنون رقصة السالسا بمختلف تقنياتها. ويبدو واضحا أنهم تلقنوا الدرس جيدا مما جعلهم فتيان وفتيات يتهافتون على الرقص وذلك الشعور بالثقة بالنفس أكثر من باد عليهم هذا إن لم يسعوا هم إلى إظهاره أمام بقية الحضور الذين قد يكونون في رأيهم قد فاتهم الركب شيئا ما... ولا بد من لفت الإنتباه في هذا السياق إلى أن السالسا التي هي رقصة شعبية في دول أمريكا اللاتينية والتي يرثها الناس هناك تعتبر لمن يمارسها في تونس مثلا بحكم عدم حضورها في ثقافتنا علامة على الإرتقاء إلى مستوى ثقافي مميز أو حتى وسيلة لمجرد البحث عن الإختلاف. النظري والتطبيقي لقد جاء الجمهور بنسبة كبيرة منه لمقارنة النظري بالتطبيقي وهي فرصة كبيرة بالنسبة لرواد مدارس الرقص من الهواة لامتحان درجة تمكنهم من هذا الفن أمام رمز من رموز السالسا بالعالم وذلك سواء رقصوا فرادى أو ثنائيات أو جماعات مع الإستعداد اللازم للحدث من خلال الإستنجاد بما يلزم من ملابس تيسر الرقصة والإكسسوارات التي تجعلها في محيط ملائم بعيد عن النشاز. على مستوى العرض فإنه كان أكثر من مرضي. لم يستسلم «أوسكار داليون» الذي يملك تلك الموهبة التي تجعلك تهلل له وكأنه ابن الدار رغم أن الجميع تقريبا يرونه لأول مرة بشكل مباشرلم يستسلم لرغبة الجمهور الجامحة في الرقص على إيقاعات دون غيرها وقدم كوكتالا من الأغاني التي تكشف عن حنجرة قوية وقادرة على آداء الأنغام والألحان الطروبة. قدم عرضه كاملا تقريبا دون أن تغيب البهجة عن وجهه في تضاد تام مع الصرامة التي تلوح عنه عندما نلمحه للوهلة الأولى بالشارب الكثيف واللون البرونزي والرأس الخالي من الشعر. كل ذلك يختفي منذ بداية العرض لنكتشف فنانا مستبشرا ضاحكا وخفيف الظل لا يخفي حالة الفرح والإنتشاء التي يعيشها. إنه يمارس الموسيقى مستمتعا بكل لحظة وهو ما يجعله يتدفق حيوية. يرقص ويغني وينشط الحفل بكرم واضح وبدون تقتير. كان مرفوقا بمجموعة من العازفين على آلات متراوحة بين ما هو غربي وتقليدي خاصة من الآلات «الآفرو- كارييبية» أي بين الباص والباتري والأورغ والترومبات ومجموعة من القطع المحلية خاصة منها تلك القطعة المتكونة من جزئين دائريين والتي يحدث النقر عليها دويا قويا. كوكتالا يراوح بين الكلاسيكي والرومانسي راوح العرض بين الإيقاعات الحادة والجافة ضمن ما يعرف بالسالسا الصارمة أو الكلاسيكية بإيقاعاتها الشديدة والمثيرة وبين الإيقاعات الحميمية ضمن ما يعرف بالسالسا الرومانسية. مع ضخه بمقطوعات معروفة ومتداولة عبر شاشات التلفزيونات في العالم على غرار «الماكارينا». لم يفتأ الجمهور يعيش لحظات العرض بكل جوارحه يرقص ويصفق ويكاد يطير عاليا أحيانا مبتهجا ابتهاجا تاما. ومع مرور الوقت انساق الجميع تقريبا ولم تعد السهرة خاصة بالمتضلعين في الرقصة وإنما انفتحت شهية الساهرين على المشاركة وعدم الإقتصار على المشاهدة. كل يتمايل وفق ما تثيره فيه الإيقاعات والحركة التنشيطية على الركح التي شارك فيها مختلف أعضاء الفرقة غناء واستعراضات راقصة وكان «داليون» يدعو من حين لآخر الجمهور إلى الركح... وعلى الرغم من أن المسرح لم يكن كله مشغولا بالذين يفقهون كلمات الأغاني التي كانت أغلبها بالإسبانية فإن الفنان أوسكار داليون استطاع ببساطة تمرير الإحساس بها إلى جمهوره وتمكينهم من تشفير المغزى من خلال الإيقاعات الحالمة أو الحزينة والمتألمة وذات الشجن أو الغاضبة والثائرة والقوية والمتحدية... الجمهور المتابع لم يأت عبثا. فإن كانت قلة متمكنة من تقنيات هذا الفن فإن الجميع يدرك فلسفة هذه الموسيقى الشهيرة بمختلف ألوانها وعلى رأسها السالسا والرامبا وغيرها وتاريخها الطويل الذي يعود إلى قرون من الزمن. ألوان موسيقية لعبت دورا كبيرا في حياة الشعوب الإفريقية بالخصوص إذ كانت وسيلة ناجعة في حماية تقاليد تلك الشعوب وطقوسها الدينية التي تقوم على الإيقاعات. ينحدر أوسكار داليون الذي يلقب أيضا بأسد السالسا من كاراكاس عاصمة فينيزويلا لكن السالسا نشأت حسب الدارسين بكوبا بجنوب أمريكا إلا أنها سرعان ما انتشرت بجنوب القارة الأمريكية قبل أن يحملها ممارسوها إلى الشمال وإلى الولاياتالمتحدة بالخصوص. وها أن رياحا طيبة قد نقلت ذات ليلة (الخميس) من ليالي مهرجان الحمامات الدولي في دورته الرابعة والأربعين السالسا إلى هذه المدينةالتونسية الحافلة بلياليها الصيفية.