العطر غاب عن سوق العطّارين وضرب المطرقة غاب عن مرتادي سوق النحاس إلى هناك... إلى قلب المدينة العتيقة، حملنا الحنين إلى أيام «الزمن الجميل» فوجدنا أنفسنا بين أحضان أزقتها نتجوّل في أسواقها ومحلاتها، مدققين النظر في كل كبيرة وصغيرة وكأننا ولأول مرة نطأ مثل هذا المكان، ربما لأننا هذه المرّة جئنا لنراها بعين أخرى فترى ماذا اكتشفنا؟ أين العطر في العطارين؟ للمتجوّل في أحد أسواق الحومة العربي وقريبا من دكاكين العطر أي في «سوق العطارين» أن يلاحظ قلة هذه الدكاكين وتحوّل أغلبها إلى محلات لبيع جهاز العروسة والفواكه والبقول الجافة وغيرها من البضائع التي لا تمت بأية صلة إلى هذا السوق، فقد ذهبت هذه الدكاكين وذهبت معها تلك الروائح الطيبة والعطور الزكيّة التي تجذب كل من يمرّ بالقرب منها وحتى القلة القليلة الباقية لم تعد للاسف تبيع العطر التونسي الأصيل، عطر الورد والياسمين والفل بل أصبحت تبيع عطورا بدون روائح، تجلبها من «نيس» حسب قول عم محمد السليمي التميمي صاحب محل لبيع لوازم الأفراح وهو يتحسر على عطر زمان الذي قال بأنه يبقى فائحا لمدة أسبوع كامل فعوض بهذا الذي لا يدوم ثوان. وغير بعيد عن «العطارين» وأنت في اتجاه سوق النحاس تقع عيناك على مزيج من الدكاكين تبيع منتوجات مختلفة: كالأغطية والزرابي والمفروشات وأواني البلور والفخّار والأليمنيوم... مما يشعرك بأنك في سوق آخر غير سوق النحاس، فتقف لتسأل أو تبحث عن اللافتة فتتأكد بأنك في المكان الصحيح ولكنك بالكاد ما تجد دكانا للنحاس، حتى دقات المطرقة التي كانت تطرق الآذان لم نعد نسمعها إلا نادرا وعن سبب هذا التراجع قال لنا عم محمد وداني صاحب محل لبيع السلع المستوردة بأنه كان نحاسا أبا عن جد ولكنه اضطر لترك حرفته هذه نظرا لقلّة إقبال التونسي على هذا المنتوج من جهة ولغلاء أسعار المواد الأولية للنحاس من جهة أخرى فاختار بيع السلع المستوردة لأنها الطريق الأنسب لكسب المال و«لتدوير الدولاب». لا عقاقير ولا صناعات تقليدية أما عن سوق «البلاط» المشهور عالميا ببيع الأعشاب والعقاقير الطبية فقد انقلب هو الآخر إلى سوق لبيع الأحذية الرياضية «المضروبة» والسلع «المقلّدة» المستوردة أغلبها من الصين. فمن كان يبيع الأعشاب فقد غيّر بسرعة وجهته ليقلد جاره وكما قال لنا عم التوهامي وأهل مكة أدرى بشعابها، «كل وقت وقتو الناس الكل تو ولاّت تحب الفلوس... المادّة هي الكل... الصنعة مشات مع أصحابها... توا وقت المقلّد والفالصو حتى صنعتنا التقليدية ولاو يقلدوها في الخارج في الصين ويبيعوها لينا في بلادنا واحنا نتخاطفو عليها...». وللمدقّق في محلات نهج جامع الزيتونة: المسلك السياحي وفي المنتوجات التي يطلق عليها أصحابها «لارتيزانال» أن يتأكد من كلام عم التوهامي فأغلب السلع «سوّاقي» مصنوعة بالآلة وليست باليد، لا يتجاوز ثمنها العشر أو العشرين دينارا. فإذا ما تمعنّا مثلا في الشاشية فسنلاحظ الفرق بينها وبين شاشية زمان: الشاشية الأصلية، ذات الوزن الثقيل واللون الثابت على مرّ الأزمان وليست هذه خفيفة الوزن التي سرعان ما تتلف وتفقد لونها لأنها مقلّدة أو موكيت وكذلك الشأن بالنسبة للبلغة والجبّة والقفطان... فقد تم تجاهل أصالتنا وعراقتنا بمجرد أن فتحت أمامهم أبواب الربح الوفير. أسواق انقرضت أما عن الأسواق التي سمعنا عنها وقرأنا لافتاتها ونحن نتجوّل ولم نعثر على شيء يوحي أو يتعلق بها فذلك حديث آخر. فسوق النساء مثلا قد انقرض وكذلك سوق الصوف وسوق الفكّة (سوق الفواكه) وسوق الوزر (سوق لبيع المحارم وأغطية الرأس) وسوق الكبابجية (سوق لبيع الأثاث القديم) وسوق اللفة (سوق لبيع الأغطية والمفروشات الصوفية العتيقة)... وإن عثرنا على بعض من هذه الأسواق فلم تتجاوز محلاتها الواحد أو الاثنين مثلما هو الحال في سوق السراجين: فأغلب المحلات التي كانت تصنع وتبيع «الأسرجة» و«البرادع» أصبحت تبيع الحقائب وحافظات النقود والأحزمة والمقاعد الجلدية وأما «السرج» أو «البردعة» فتباع حسب الطلب أي أدفع وانتظر أن تصنع لك. ما زاد الطين بلّة وفي قلب تلك الزحمة التي كانت تعمّ أغلب أزقة الأسواق تتراءى لعين النظار أشياء أخرى أفقدت كل تلك الأشياء الجميلة رونقها وبريقها فبمجرد أن تتجاوز المسلك السياحي وتتوغل أكثر في المدينة وتقترب خاصة من المطاعم ومحلات «الملاوي» و«المقروض» ستلاحظ أكواما من الرمال مكدّسة بجانب هذه المحلات وأكواما أخرى من الأوساخ وقد انبعثت منها روائح كريهة امتزجت بروائح المأكولات فأنتجت رائحة من نوع خاص تثير الاشمئزاز، مما زاد الطين بلّة فتنتابك الحيرة والاستغراب عن الحال الذي أصبحت عليه الحومة العربي، فبعد أن كنا نأتي إلى الحومة العربي لنشم الروائح العطرة روائح البخور والعنبر والفلّ والياسمين... أصبحنا نشتم مثل هذه الروائح حتى الموسيقى التي كنا نستمع إليها ونحن بين أحضان مدينتا العتيقة يبدو أنها اندثرت ورحلت مع الأجداد لأن ما صرنا نسمعه اليوم من أغان وموسيقى غربية وشرقية صاخبة ليس ما كنا نسمعه في الماضي في مثل هذا المكان الذي من المفروض أن يكون اسما على مسمّى وتعلّة الكل في هذا الشأن «شباب اليوم يحب الجوّ والسائح ما يفهمش كلامنا والغناء القديم ما عادش موضة». المتاجرة بالمحلات حتى المحلات والدكاكين لم تسلم هي الأخرى مما اطلق عليه التجار «بتدوير الدولاب» فقد أصبح أصحابها أو مكتروها يتاجرون بتاريخها مما افقدها شيمها وأصالتها وعراقتها التي انتزعوها منها بما أضافوه وغيروه من اشياء يقولون بأنها عصرية. «نحن الملاّكة والتجار نبتغي الربح ككل الناس فرغم أننا ورثنا صنعة أجدادنا وورثنا هذه الدكاكين، نبقى في النهاية تجارا نبحث عن المكسب كيفما كان واكتراء المحل بالنسبة للعديد ومنهم العبد لله أكبر مكسب وأكبر آفار...» هكذا حدثنا أحد التجار وصاحب محل في سوق البلاط وقد تمسك بعدم ذكر اسمه وأخبرنا أيضا بأن هناك ظاهرة جديدة تدخل في هذا الإطار وتتمثل في كراء ماهو مكري أو ما يسمى «كرية تحت كرية». وفي الختام ما عسانا أن نقول غير «يا حسرة على أيام زمان» كما قال العديد من التجار والحرفاء الذين التقيناهم ويا حسرة على حومتنا أيام «الزمن الجميل» فهل من منقذ أم أن كل شيء إلى اندثار؟ لطيفة مدوخي للتعليق على هذا الموضوع: