تنطلق السياسة الخارجية للولايات المتحدةالأمريكية من الاستراتيجية العليا للبلاد والتي لا تتغير مع تغير الرؤساء أو المجالس التشريعية. وعلى رأس تلك الأهداف أربعة: 1. حماية الأمن الوطني، أي الحماية المادية الفعلية لسكان البلاد. هذه الحماية تعني تأمين منظمومة دفاعية وهجومية قادرة على التصدي للأخطار المتوقعة من خارج حدود البلاد والتي كانت تتمثل في الخطر الأساسي الذي كان يمثله الاتحاد السوفييتي سابقا ومجموعة حلف وارسو. وبعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 توسّع هذا المفهوم ليشمل أي عدوان على أمن البلاد من خارج البلاد أومن داخلها. 2. حماية أمن وسلامة جيران الولاياتالمتحدة وحلفائها الأساسيين الذين تضمهم المنظومة الديمقراطية والذين يتشاركون مع الولاياتالمتحدة في حلف الناتو ومنظمات أخرى على اعتبار أن أي هجوم على واحد من هؤلاء الحلفاء الأساسيين هو اعتداء مباشر على الولاياتالمتحدة نفسها. 3. حماية الأمن الاقتصادي للبلاد وتأمين استمرار دخول المواد التي تدخل في عصب الصناعة الأمريكية وتقوم عليها رفاهية الشعب الأمريكي وخاصة النفط. ومع أن الولاياتالمتحدة غنية بالمصادر الطبيعية المتنوعة، إلا أنها ما زالت تستورد ربع احتياجاتها النفطية وللستين أو سبعين سنة القادمة وكل ما تنتجخ محليا لا يتجاوز الثلاث بالمائة من احتياجاتها. وهناك مئات المواد الأولية الأخرى الهامة التي تستوردها الولاياتالمتحدة لكن أيا منها لا يرقى لمستوى أهمية النفط 4. نشر ما يسميه الساسة الأمريكيون المبادئ والمثل والثقافة الأمريكية. وتقف على رأس تلك المبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون وحرية التعبير والتجمع والتفكير وحرية الأديان والمساواة بين الرجل والمرأة. ومع أن هذه الأهداف تعتبر ثابتة وتغييرها أو إلغاؤها أمر غير وارد إلا أن التركيز على رزمة من الأهداف الفرعية المنبثقة من تلك الأهداف الأساسية تختلف من زمن لزمن ومن رئيس لآخر... فحماية أمن البلاد أيام الحرب الباردة كانت تتضمن بناء شبكة من أنظمة الأسلحة النووية والصواريخ العابرة للقارات وعسكرة الفضاء وبناء أساطيل عسكرية تنتشر في كافة المحيطات بالإضافة إلى محاصرة الأنظمة الشيوعية وحصر نفوذها وإرهاقها في سباق تسلح لا نهاية له. ومن أجل ذلك الهدف تم التعامل مع أكثر النظم دكتاتورية وفاشية وتخلفا دون الالتفات إلى احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية أو تداول السلطة. فكان من حلفاء الولاياتالمتحدة شاه إيران ونوري السعيد في العراق وبنوشيه في تشيلي وباتيستا في كوبا وسوموزا في نيكاراغوا وماركوس في الفلبين وموبوتو في زائير وبوثا رئيس نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وسياد بري في الصومال وغيرهم الكثير. وتتبع الولاياتالمتحدة مع خصومها من أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية مجموعة من الأساليب من بينها الاحتواء والردع والتعايش والعزل والتدخل المباشر. ولهذه الأساليب حديث يطول لا نستطيع الخوض فيه في هذه العجالة. بالنسبة للمنطقة العربية تمحورت السياسة الخارجية الأمريكية حول مجموعة من الأهداف: 1. الاستقرار في المنطقة التي تضخ النفط في شرايين الاقتصاد الأمريكي بغض النظر عن شكل النظام وشرعيته وممارساته القمعية. 2. دعم إسرائيل بكافة الوسائل العسكرية والاقتصادية والسياسية والأمنية واعتبارها الحليف الأول للولايات المتحدة بغض النظر عمّن يجلس في البيت الأبيض. وقد تناسبت المساعدات الأمريكية لإسرايل طرديا مع قدرات إسرائيل العسكرية فالمساعدات الاقتصادية والعسكرية تزداد كلما أثبتت أنها قادرة على تأمين الاستقرار في المنطقة وقادرة على محاصرة وضرب الأنظمة الوطنية المشاكسة للسياسة الأمريكية في المنطقة. فبعد حرب 1967 وهزيمة العرب، وخاصة نظام عبد الناصر الذي كان يلهب مخيلة الجماهير العربية في التحرر والاستقلال والتقدم، احتلت إسرائيل موقعا أعلى في سلم السياسة الخارجية الأمريكية وأصبحت الحليف المدلل الذي يعتمد عليه في المهمات الصعبة. 3. دعم الأنظمة المحافظة والتقليدية على حساب الأنظمة الوطنية ومحاصرة حركات التحرر وعزل منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل المناهضة لسياسة إسرائيل التوسعية وتشجيع الحركات الانفصالية والعرقية والتدخل المباشر إذا لزم الأمر لتثبيت أو إعادة تلك الأنظمة كما فعلت في الانقلاب الذي أطاح بمصدّق في إيران عام 1953 وإعادة الشاه محمد رضا بهلوي، وإنزال مشاة البحرية في لبنان عام 1958 لدعم نظام كميل شمعون وإرسال مشاة البحرية عام 1982 لتثبيت مكاسب إسرائيل في لبنان وحماية الفئات الطائفية التي كانت مستعدة لعقد مصالحة تاريخية مع إسرائيل. وكان آخر تلك التدخلات العسكرية ما جرى في العشرين من شهر مارس 2003 عندما قررت الإدارة الحالية أن تطيح بنظام صدام حسين تحت حجج ثبت فيما بعد أنها غير صحيحة كموضوع أسلحة الدمار الشامل واستغلت تلك الحجج لتبرير تلك الحرب التي لم تستطع الولاياتالمتحدة بكل قوتها وتأثيرها أن تستصدر قرارا من مجلس الأمن يمنحها غطاء من مركز الشرعية الدولية كما فعلت عام 1991. 4. بعد الهجمات التي تعرضت لها الولاياتالمتحدة في الحادي عشر من سبتمبر 2001 أعادت ترتيب أولوياتها في المنطقة العربية أولا والعالم الإسلامي ثانيا، لتجعل، كجزء من حربها الكونية على الإرهاب، دعم الديمقراطية والمجتمعات المدنية وسيادة القانون وتحديث مناهج التعليم ومحاربة جذور الإرهاب وتجفيف المستنقعات التي ينمو فيها التطرف والكراهية والإحباط على رأس اهتماماتها. إلا أنها عادت وتراجعت عن تلك السياسة بعد أن اكتشفت أن الفئات الأكثر تنظيما والقادرة على كسب أية انتخابات ديمقراطية هي الأحزاب الإسلامية كما حدث في مصر والعراق ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلةوإيران وتركيا. وعادت السياسة الأمريكية كسابق عهدها تركز على الاستقرار وتعتمد أساسا على إسرائيل وتعتبرها الحليف الأساسي لها في المنطقة وضمنيا توافق على سياساتها القمعية وأنشطتها الاستيطانية ومواقفها المتصلبة من قضايا الحل النهائي كقضايا اللاجئين والقدس والدولة المستقلة. كل ما تقدمه للعرب عقد مؤتمرات وإطلاق تصريحات إنشائية حول دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة بينما كل ممارسات إسرائيل على الأرض تشير إلى إغلاق كافة القنوات التي قد تؤدي يوما إلى قيام تلك الدولة. وعادت سياسة الولاياتالمتحدة كسابق عهدها تتعامل مع الأنظمة السلطوية كما هي ومن حين إلى آخر تطلق تصريحا خجولا حول انتهاكات حقوق الإنسان واضطهاد المجتمع المدني واستلاب الانتخابات. سياسة المرشحين لانتخابات الرئاسة: يختلفان على كل شيء تقريبا إلا على تجاهل العرب وهمومهم وقضاياهم بعد هذه المداخلة حول السياسة الأمريكية بشكل عام نعود للنظر في برامج المرشحين المتنافسين على مقعد الرئاسة الأمريكية. فنجد أن المرشح الديمقراطي أوباما، رغم خبرته المتواضعة في مجال السياسة الخارجية إلا أنه أثبت في لقاءاته وخطبه العديدة ومناظراته أن برنامجه في السياسة الخارجية يتسم بالعقلانية والوضوح والفهم الواسع للخراب الذي ألحقته سياسة الإدارة الحالية بمركز الولاياتالمتحدة وتحالفاتها في العالم وتوسيع رقعة أعدائها . ففي المناظرتين الأولى والثانية التي جرت بين أوبا ما وماكين كان العرب الغائب الأكبر في كلتا المناظرتين اللتين غطتا قضايا السياسة الخارجية والأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد. ذكرت إسرائيل عدة مرات وخاصة في معرض الهجوم الذي شنّه ماكين على إيران التي تهدد بإزالتها، وجاراه في هذا الموقف المرشح الديمقراطي. أما قضية الصراع العربي الإسرائيلي والمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين والوعد بإقامة دولة فلسطينية مستقلة لم تظهر على رادار أي من المرشحين. حتى قضية العراق والتي احتلت حيزا أساسيا في المناظرتين لم يتطرق المرشحان للمآسي التي ألمت بالشعب العراقي وما لحقه من تشريد طال خمس الشعب العراقي بالإضافة إلى أكثر من مليون ضحية وتفجير الصراعات العرقية والدينية بين مختلف مكونات الشعب العراقي. اختلف المرشحان في رؤيتهما لأولويات السياسة الخارجية وطرق التعامل مع التحديات الخارجية. إلا أنه بدا واضحا من مناظرتي المترشحين أن الأخطار الخارجية الأساسية التي تواجه الرئيس المنتخب تتمحور في ثلاثة: 1. الخطر الداهم الذي يمثله ما اتفقوا على تسميته "الإرهاب والتطرف" 2. الخطر المنظور الذي تمثله "الدول المارقة" مثل إيران وكوريا الشمالية وكوبا وبدرجة أقل فنزويلا وبوليفيا 3. الخطر الكامن الذي تمثله روسيا والصين استطاع أوباما أن يميز مواقفه عن مواقف ماكين وخاصة في قضية محاورة الخصوم وعدم إغلاق باب الحوار مستشهدا بما سببته سياسة الرئيس الحالي جورج بوش والقائمة على مقاطعة كوريا الشمالية وإيران، وهما ضلعان في محور الشر، من نتائج عكسية دفع بالأولى إلى إجراء أول تجربة تفجير نووية وبالثانية إلى سلوك الدرب نفسه والعمل على تطوير أسلحة نووية. والنقطة الثانية التي ميّز أوباما نفسه على مناظره الجمهوري هي تعهده في حالة انتخابه رئيسا أنه سيعمل على تحسين صورة الولاياتالمتحدة في العالم بعد أن فقدت كثيرا من هيبتها واحترامها وتأثيرها ليس فقط بين خصومها بل وبين حلفائها كذلك. والنقطة الثالثة التي أكد فيها أوباما تميزه هي أن الخبرة لا تكفي لاتخاذ القرار الصحيح بل الرؤية السديدة وحسن تقدير الأمور وإصدار الحكم الصائب في الوقت المناسب كما فعل عندما صوّت ضد الحرب على العراق بينما صوّت خصمه المجرب ماكين إلى جانب تلك الحرب. اختلف المرشحان على كافة القضايا تقريبا كحرب العراق وكيفية الخروج منها والحرب الدائرة في أفغانستان وكيفية الانتصار فيها. كما اختلفا على طريقة التعامل مع باكستان ومع برنامج إيران النووي والتعامل مع الخصوم والتسلح النووي وغيرها الكثير إلا أنهما لم يختلفا على دعم إسرائيل اللامحدود.. بل وزايد ماكين على خصمه بتأييده لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. الغائب الأكبر في سياسة المرشحين الخارجية هم العرب كأمة والعرب كدول والعرب كقضية والعرب كقوة تأثير، والعرب كموقف موحد حقيقي مدعوم بالفعل لا بالقول.. الأمة العربية في وضعها الحالي فقدت أي وزن لها. لا أحد يقيم لها شأنا فقيمة الدول بمنجزاتها الاقتصادية والمؤساستية والعلمية والفنية. قيمة الدول تتمثّل في مدى تعبير السلطة التنفيذية عن أولويات شعبها وخياراته والعمل على تحقيق تلك الخيارات. قيمة الدول بتمكين شعوبها ومعاملتهم كمواطنين لا رعايا مهمتهم تبجيل الحاكم وتقبيل أياديه والدعاء له في صلواتهم. لهذا السبب تتحول دول كالهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وأندونيسيا إلى دول عظيمة وتنضم الصين لنادي تكنولوجيا الفضاء ويقوم أول صيني بالمشي في الفضاء الخارجي بينما ينشغل العرب بفتاوى زواج القاصرين والمسلسلات وأفلام الكرتون والاختلاف على هلال شوال وتضيع قضاياهم الأساسية رغم الامكانات الهائلة التي وفرها ارتفاع أسعار النفط لهذه الدول في الوقت التي تعاني دول عظمى من انهيارات مالية مخيفة. أيوجد وقت أفضل من هذا لتقف هذه الأمة وقفة مسؤولة تعيد الاعتبارعلى الأقل لمواقفها الموحدة التي وضع زعماؤها الاثنان والعشرون توقيعاتهم عليها في وثيقة أسموها مبادرة السلام العربية في بيروت قبل ست سنوات ونيّف وعادوا وأكدوا عليها في قمة الرياض قبل سنة؟ فإذا لم يفعلوا، ولا أظنهم فاعلين، فهل نلوم الآخرين إذا تجاهلوا هذه الأمة وقضاياها وعلى رأسها القضية الفلسطينية كما حدث في مناظرات المترشحين لانتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة؟ × أستاذ العلوم السياسية ودراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرزي