يحدد الفيلسوف الألماني نيتشه أهمية اللغة في أن الإنسان أودع فيها عالما خاصا به وهو موقف اعتبره - أي الإنسان - من المتانة بما يكفي حتى يكشف عن كوامن العالم وينصب نفسه سيّدا عليه. ويتوغل مارتن هايدغر في تفكيك ظاهرة اللغة منتهيا إلى أنها تضمن أن يكون في استطاعة الإنسان الوجود بوصفه كائنا تاريخيا. هذا على المستوى الفلسفي الوجودي يجعل من اللغة أحد أهم أبعاد الظاهرة الإنسانية من منظوري الوعي واللاوعي. أما على المستوى الحضاري والثقافي،فإن اللغة تكتسب نفس الأهمية المركزية والأولوية باعتبارها الركن الأقوى في تشكيل الهوية الثقافية لأي أمة من الأمم ومجتمع من المجتمعات. ولكن لأن قوة اللغة في قوة أهلها على رأي ابن حزم، فإن اللغة العربية تشهد حالة من التدهور، هي من نتاج تدهور المجتمعات العربية ودخولها في نفق من الأزمات والتراجع. وإذا كان من الممكن أن نفهم تراجع موقع اللغة العربية في المشهد اللغوي الثقافي العالمي، فإن ما يصعب تحمله هو أن نسهم نحن في مزيد تدهورها من خلال تهميشها وتفضيل التخاطب بلغة غيرها في مقام لا يستدعي ذلك والمشاركة في تهجينها، باعتماد خطاب لغوي مزدوج يُظهر اللغة العربية قاصرة عن التبليغ باعتبار أن الاستنجاد بالكلمات الأجنبية أو إعلاء شأن العامية في كتاباتنا وفي وسائل الإعلام يعد في مصاف الضربات الموجعة لأهلية اللغة العربية على القول والتعبير والمكاشفة. وفي الحقيقة فإن اليوم الدراسي الذي أقيم مؤخرا بتنظيم بين وزارة الاتصال والعلاقات مع مجلس النواب ومجلس المستشارين والإذاعة التونسية، لا يمكن أن يقارب إلا من هذه الزاوية ذلك أن دور وسائل الإعلام في المحافظة على اللغة العربية أكثر من مهم ومركزي خصوصا أن بعض وسائل الإعلام هي التي ساهمت في تهميش اللغة العربية بل أن التسابق نحو تهميشها قد أصبح القاسم المشترك لأغلب هذه الوسائل وذلك بحجة التبسيط أحيانا وبحجة تحقيق أعلى درجة جماهيرية من الاجماع أو المشاهدة أو القراءة في أحايين أخرى. وهي حجج كما نرى تفتقد إلى التماسك المنطقي والقوة لأن التبسيط لا يحققه التهجين اللغوي للخطاب الإعلامي بقدر ما تؤمنه الحرفية والفكرة الواضحة والأسئلة الدقيقة ،التي تمس الاهتمامات في الصميم. ونفس الشيء بالنسبة إلى الجماهيرية التي يضمنها الإبداع والحرفية بدليل أن الإقبال الجماهيري الذي تلقاه الأعمال التاريخية لا يقارن بنسبة المشاهدة لأعلى الأعمال الدرامية ذات اللهجات العامية مهما كانت ناجحة وطريفة. وبصراحة علاقة وسائل الإعلام باللغة العربية ليست نفسها، بل أنه في نفس الوسيلة الإعلامية، نجد اختلافات بين الإعلاميين الذين ينقسمون إلى جماعة حريصة على احترام اللغة العربية ومؤمنين بأهميتها الثقافية وكيف أن تذبذها يؤدي إلى تذبذب الناشئة والشباب وبين جماعة أخرى ترى أن لغة وسائل الإعلام هي لغة الشارع واليومي ويجب أن تكون مواكبة لآخر التقليعات اللغوية مهما كانت منبتة. ولنا طبعا أن نتخيل مدى أهمية المضامين الإعلامية التي تعتمد لغة ملفقة من كلمة أجنبية وأخرى بالعامية وأخرى بالعربية الشيء الذي يفتت الهوية ويدوس على رقبتها بحذاء وسخ! فالأمر الذي عليه بعض البرامج وحتى بعض المقالات وإن كانت قليلة جدا، يفرض على الجميع تبني ميثاق يتضمن الحد الأدنى من المبادئ والشروط التي يلتزم بها المذيعون وأن تبذل كل وسيلة إعلام جهدا في معالجة ظاهرة التسيب اللغوي الضار باللغة العربية وبأطفالنا وشبابنا بشكل عام. كما أنه بامكان المثقفين والكتاب والمبدعين بشكل عام أن يقاوموا هذه الظاهرة من خلال الالتزام بالتحدث في وسائل الإعلام باللغة العربية الميسرة ويظهرون بحكم امتلاكهم لملكة هذه اللغة جمالياتها وقدرتها الخاصة في التبليغ والوصف والتعبيرالدقيق. إن دور الإعلام حيوي ونحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى خصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار حال القراءة والمطالعة والعلاقة المتواضعة جدا مع الكتاب. هل من ميثاق بين وسائل الإعلام الوطنية يجنب لغة الضاد الجلد الدامي؟