تونس - الصباح كيف تنظر الحكومة إلى العام الجديد؟ ما هي أولوياتها بالنسبة للأشهر المقبلة ؟ وما هو الأفق الذي ستتحرك في إطاره، سيما ونحن نستعدّ لسنة استحقاقات انتخابية، رئاسية وتشريعية، بدأت الاستعدادات لها بصورة مبكرة من جميع الأطراف؟ في الواقع كان الاعتقاد السائد لدى عدد غير قليل من السياسيين والمراقبين، أن تكون أجندة الحكومة خلال الفترة المقبلة أمرا غير معلن، ليس لصعوبة المرحلة الراهنة فقط، وإنما لأنها تستعدّ لانتخابات، كان يفترض أن تؤجّل مبادراتها للخريف القادم، وفق ما يقتضيه التكتيك السياسي في المواعيد الانتخابية التي تعتمد على عنصر المبادرة والمفاجأة إلى جانب الإعداد الجيّد.. غير أن الكلمة التي أدلى بها رئيس الدولة بمناسبة السنة الجديدة، تضمنت إجابة دقيقة على هذه التساؤلات، من خلال تقديم ما يمكن اعتباره "برنامج الحكومة" للفترة المقبلة التي تسبق الانتخابات المقررة بعد نحو عشرة أشهر من الآن.. فقد كشف الرئيس بن علي في هذه الكلمة، عن برنامج واضح من المنتظر أن يكون بمثابة "الأجندة" للحكومة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. الحوار والتعاون .. ولعلّ أولى عناصر هذه الأجندة، "تعميق مناخ الحوار والتعاون" مع جميع الأطراف السياسية والاجتماعية خلال السنة الجديدة، تماما مثلما حصل خلال الفترة الماضية، من خلال تشريك جميع الفعاليات، في الاستشارات والندوات الوطنية التي التأمت، سواء تلك المتعلقة بالتشغيل، والتي أفضت إلى صياغة شبه مدوّنة حول هذا الملف، من المتوقع أن تتخذها الحكومة ك "خريطة طريق" خلال الفترة المقبلة، أو عبر الاستشارة الخاصة بالوظيفة العمومية والإدارة، أو من خلال الاستشارة الوطنية حول الشباب، التي أفضت إلى التوقيع على ميثاق وطني للشباب، سيكون بدوره مصدر متابعة للحكومة في قراراتها المتعلقة بهذه الفئة الهامة من المجتمع.. وكشف رئيس الدولة في هذا السياق، عن مبادرة الحكومة بتنظيم حوار وطني خلال النصف الأول من السنة الجديدة، يهدف إلى "بلورة السبل الكفيلة بدعم الإنتاجية باعتبارها مقوما أساسيا لرفع تنافسية اقتصادنا على الساحة العالمية"، وهو الحوار الذي ستشارك فيه مختلف الأطراف الوطنية، من أحزاب ومنظمات وكفاءات وأطراف إنتاج وهيئات مهنية.. ممّا يعني من الناحية العملية، وجود إرادة واضحة لاستمرار الحوار كآلية أساسية في علاقة الحكومة بمختلف الأطراف في البلاد.. وإذ تطالب الأطراف السياسية بتشريك فعلي وحقيقي في هذه الاستشارات، والدخول معها في مشاورات منتظمة "تتجاوز إطار الديكور"، حسب تعبير بعض رموزها، فإن المطلوب منها بذات القدر أيضا، أن تكون إيجابية في طريقة تعاطيها مع عملية التشريك هذه، بعيدا عن أية حسابات سياسوية من شأنها إفشال أيّة استشارة أو مشاورة حتى قبل أن تبدأ.. إن الحوار والمشاركة في الاستشارات، يبقى في جميع الحالات أفضل من التفرّج على الربوة وإحصاء الفشل أو تحيّن الخلل لتسجيل موقف سياسي، في وقت تحتاج البلاد إلى حلول لبعض المشكلات، لا يهم في المحصّلة تحميل هذا الطرف أو ذاك مسؤولية الإخفاق فيه أو النجاح، بقدر ما يهم كيفية الخروج منه وتجاوزه، حتى وإن كان الأمر على حساب البعض من "الكاريزما السياسية"، إن توفرت للبعض فعلا.. الحريات .. والقانون ولأن السنة القادمة سنة الاستحقاق الانتخابي، بما يعنيه هذا الكلام من ضرورة توفر حدّ أدنى من هامش الحريات، سواء تعلق الأمر بمزيد من حرية التعبير والرأي، أو بهامش التحرك السياسي لمكونات المجتمع المدني، فإن كلمة الرئيس بن علي، تضمنت إشارة لافتة بوجود رغبة في "توسيع مساحة الحريات العامة ومجالات المشاركة السياسية".. على أن هذا التأكيد جاء مقترنا ب"احترام المرجعيات الوطنية، والاحتكام إلى دولة القانون والمؤسسات، ووضع مصلحة تونس فوق كل اعتبار".. ولئن اعتبر هذا الاستخدام "غير جديد" بالنسبة للبعض، بحكم أنه استخدم في أوقات وفترات سابقة، منذ بيان السابع من نوفمبر 1987، فإن التذكير به في هذه المرحلة بالذات، يأتي في سياق التأكيد على أن الحريات والقانون، "متلازمان بالرضاعة" (إذا شئنا استخدام مقولة ابن رشد)، سيما وأن الكثير من التجارب والأحداث في أكثر من عاصمة عربية وإفريقية، كشفت بوضوح، أن أي اختلال بصددها، أو تغليب طرف من خيوطها على الآخر، من شأنه الإضرار بالمصلحة الوطنية ووضع البلاد ومصيرها "على كفّ عفريت"، كما يقال.. ليس هذا فحسب، بل إن رئيس الجمهورية شدد في هذه الكلمة السنوية، على حرصه "على أن تجري الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة، في أحسن الظروف وفي نطاق الشفافية واحترام القانون"، تماشيا مع "ما بلغه شعبنا من نضج سياسي ورشد حضاري هو بهما جدير"، وهي العبارة التي لا نعتقد أن أحدا ممن استمع إلى بيان 7 نوفمبر، قد نسيها أو تناساها، وهي إشارة يجري ذكرها لأول مرة منذ عشرين عاما، بما يعني دلالتها السياسية الواضحة في هذه المرحلة بالذات.. إنها إشارة تحيل إلى وجود قناعة لدى السلطة بأن المرحلة الراهنة، تقتضي مسؤولية وطنية مضاعفة تتساوق مع التحديات المقبلة على البلاد في شتى المجالات.. طمأنة لا تخلو من تحذير لكن الخطاب الرئاسي، لم يكتف بالحديث عن الجوانب السياسية فحسب، وإنما حرص على التعاطي مع الملف الاقتصادي، وخاصة تداعيات الأزمة المالية العالمية على اقتصاد البلاد، ومن ثم على الحياة الاجتماعية للمواطن التونسي.. فقد أوضحت كلمة رئيس الجمهورية، أن الحكومة "تستقبل سنة 2009 بثقة وتفاؤل"، لكنها أشارت بوضوح إلى ما وصفته ب "حدة الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة"، ملمحة إلى ما يمكن أن ينجرّ عنها من "آثار مرتقبة".. ومن هنا جاء التأكيد على "يقظة" الحكومة وتعاملها بالحيطة في جميع شؤونها، من خلال "رسم سياستها ومخططاتها بما يلزم من الحذر والتبصّر، وبما يتناسب مع الظروف السائدة والوسائل المتاحة"، وهو ما يترجم عن خطاب واقعي، لا يغرق في التفاؤل، ولا يضع التونسيين أمام المقصلة، كما يقال بقدر ما يعتمد أسلوبا فيه الكثير من الصراحة والوضوح والشفافية، قصد تجنّب نوع من الحذر المبالغ فيه، الذي قد يؤدي إلى تخويف الناس مما هو آت، وفي نفس الوقت، إحاطة الناس بطرفي المعادلة، وهما الإمكانات والوسائل من جهة، والعمل على الحد من الانعكاسات السلبية للأزمة، من دون تضييع ما وصف ب "نجاعة منوالنا التنموي ببعديه الاجتماعي والاقتصادي" من جهة ثانية.. ويبدو أن الخطاب الرئاسي، لم يكن يستهدف المواطن أو النخب فحسب، بقدر ما كان يتجه كذلك إلى المسؤولين في الحكومة، من خلال دعوتهم إلى اعتماد لغة عقلانية لا تغرق في تكريس "خطاب وردي" لا يترجم حقيقة الأمور، ولا يتخذون من التشاؤم سبيلا لتخويف الناس وإدخال الهلع والجزع إلى نفوسهم بما يجعلهم يتوجسون خيفة على مستقبلهم ومصير أبنائهم.. ومن هنا يمكن للمرء أن يفهم الإصرار الرئاسي، الذي جاء ضمن صيغة فيها الكثير من التحدي، على أن "تداعيات الانكماش التي بدأت تطول الاقتصاد العالمي، لن تصرفنا عن تنفيذ المشاريع الكبرى وخصوصا ما تعلق منها بشبكة الطرقات السريعة"، إلى جانب "مزيد تنويع القاعدة الاقتصادية للجهات"، بالإضافة إلى الإعلان عن مبادرات جديدة بشأن "تطوير الخدمات في مكاتب التشغيل"، و"توسيع إحداثات الشغل وتعزيز آلياتها"، و"استهداف حاملي الشهادات العليا ببرامج حديثة من التكوين والتأهيل تيسر لهم سبل الانتداب وبعث المشاريع"، وهو ما يمكن أن نعبّر عنه ب "أولويات الحكومة خلال المرحلة المقبلة".. وفي الحقيقة، فإن الخطاب الذي أدلى به رئيس الدولة بمناسبة رأس السنة الميلادية، يؤشر لتعاط حكومي جديد مع المستجدات المحلية والدولية، يختلف لغة ومضمونا وسياقا عما كان المرء يستمع إليه في وقت سابق.. وهو مؤشر على أننا دشّنا بالفعل مرحلة جديدة سيكون العام 2009 منطلقها ومقدمتها..