بعد نحو سبع سنوات من الدعوة الامريكية ل"الديمقراطية في العالم العربي"، يبدو أن العقل السياسي الامريكي استفاق من غفوته، ليكتشف أن هذا المسعى غير ذي جدوى في عالم عربي شديد التعقيد.. وتفيد معلومات موثوقة في هذا السياق، أن رئيس وزراء بريطانيا السابق، طوني بلير، الذي يتزعم منذ فترة الرباعية المكلفة بمسألة السلام في الشرق الاوسط، همس في أذن الرئيس الامريكي السابق، جورج دبليو بوش، بأن على أوروبا والولايات المتحدة "أن تترك العالم العربي لتفاعلاته الداخلية، على اعتبار أن الارضية لارساء الديمقراطية في هذه البقعة من العالم، غير متوفرة بالشكل الكافي"، ونصح قرينه بوش لدى توديعه قبل بضعة أيام، بأن يتخلى عن فكرة إرساء الديمقراطية في العالم العربي، وهو ما يبدو أن بوش اقتنع به على الرغم من كونه كان في أيامه الاخيرة في البيت الابيض.. ولا شك أن قسما من النخب عندنا، في الوطن العربي برمته، كان يعوّل على هذه "الديمقراطية الامريكية"، وكان البعض من الشخصيات والفاعلين في المشهد السياسي، ولعلهم ما يزالون يفعلون ذلك إلى الان يحصون تصريحات المسؤولين الامريكيين والاوروبيين في جولاتهم المغاربية والعربية، وتراهم يفتّشون عن بعض الكلمات التي تتضمنها تصريحاتهم الصحفية، خاصة ما تعلق منها بدفع المسار الديمقراطي، وتلك الكلمات التي تكاد تتكرر في كل زيارة أو جولة حول تحسين أوضاع حقوق الانسان وحرية التعبير والاعلام، وهي الكلمات والتصريحات التي كانت تعطي "شحنة معنوية وسياسية" لبعض المعارضين ممن اعتقدوا بأن هذه التصريحات، ستكون الوقود الذي سيطلق العنان للديمقراطية في بلداننا، أو على الاقل سيكون بمثابة ورقة الضغط على الجهات الرسمية لكي تمضي باتجاه الموضوع الديمقراطي واستحقاقاته.. صحيح أن المشهد العام في بلداننا بحاجة ماسة إلى معالجة ديمقراطية جادة، تشمل مختلف الملفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاعلامية، بل حتى أسلوب إدارة الدولة والمجتمع والاجهزة والمؤسسات، غير أن التعويل على "الدور الخارجي" في التوصل إلى "المطلب الديمقراطي"، قد لا يكون مفيدا في السياق النضالي العام من أجل "الديمقراطية واستحقاقاتها".. لسنا هنا بصدد تقييم المطلب الديمقراطي على المسار الامريكي أو الاوروبي، ولن نتخذ من الوعود الامريكية بالديمقراطية في العراق أو أفغانستان أو فلسطين أو غيرها من العواصم الافريقية والاسيوية، مسوّغا لمناقشة تهافت التعويل على "الحرص" الامريكي لدمقرطة المنطقة العربية، باعتبار أن التجربة الامريكية في هذا المنحى، تؤدي بل أدت إلى نتائج عكسية تماما، لانها كانت تجربة متأرجحة و"ملغومة" بجملة من الحسابات المختلفة، بعضها سياسي والبعض الاخر مصلحي يتراوح بين الاني (التكتيكي) والاستراتيجي.. لن نقيّم المطلب الديمقراطي في علاقته باستحقاقات المشهد السياسي في بلداننا، فذلك من باب "تحصيل حاصل"، وهو أمر لا يختلف عليه اثنان من حيث المبدأ على الاقل، غير أن ما يهمنا في هذا السياق، هو هذه "القناعة" التي ترسخت في أذهان البعض من الفاعلين السياسيين، بوجود أمل في الديمقراطية بدعم أو بضغط أمريكي من شأنه تسريع خطى المطلب الديمقراطي، لكي يكون عنوانا لمرحلة ورقما في أجندة وأسلوبا في إدارة الشأن العام، تحقيقا لما بات يعرف ب"الحكم الرشيد" في بلداننا.. ويبدو من خلال هذه الرؤية الامريكيةالجديدة للمسألة الديمقراطية في العالم العربي، أن المطلوب من بعض المعارضين خلال المرحلة المقبلة، هو "فك الارتباط" بين الحاجة الوطنية للديمقراطية، والاجندة الخارجية لهذه المسألة.. وربما لا نبالغ إذا ما قلنا بوضوح، بأن نخبنا ضيعت الكثير من الوقت في التعويل على دعم أمريكي أو أوروبي من أجل الديمقراطية، بحيث صرف الكثير من الوقت والجهد والفكر، في المطالبة بديمقراطية لم تملك نخبنا ناصيتها، بل لم تكن متحكمة حتى في مقاساتها، ديمقراطية يراد لها أن تكون بهوية ودعم أمريكيين.. سوف يقال إن الديمقراطية شأن كوني وليست مسألة أمريكية أو أوروبية، ونحن نقول إنه حان الوقت لكي نناقش هذا الموضوع بصراحة ومن دون أية صفصطة فكرية أو لغوية، من شأنها الابتعاد بنا عن لبّ الموضوع تحت مفردات لم تستفد منها بلداننا ولم تدفع باتجاه بناء ديمقراطي وطني حقيقي وجادّ.. يتعيّن علينا أن نقف على أرضنا قبل أن تمتدّ أعناقنا وعقولنا إلى هناك، حيث تجارب أخرى أنتجتها مخاضات أخرى مختلفة في سياقاتها وأهدافها وأدواتها ومضمونها.. ومن المؤكد أن الاجيال القادمة ستسأل نخبنا سواء الحي منها أو الميّت عن الجهود التي بذلتها في بناء الديمقراطية وليس عن الجهود التي تم بذلها في "استيراد" هذا النموذج أو ذاك من أوروبا أو أمريكا، أو في استجداء "المطلب الديمقراطي".. ليست هذه دعوة شوفينية مثلما قد يذهب البعض للانكفاء على أنفسنا، وإنما هي دعوة ومناشدة لكي تبدأ نخبنا في التفكير بجدّية في المطلب الديمقراطي ضمن أفق جديد، بعيدا عن "التعويل الخارجي" مهما كانت وعوده وأجندته، وبصرف النظر عن مدى جديتها ومصداقيتها المزعومة.. إن ما يجري من تحولات اجتماعية عميقة في مجتمعاتنا، وما يدور من حولنا من تغيّرات جيو سياسية واقتصادية هائلة، تجعل من اللازم، بل إن الامر يرتقي إلى مستوى الواجب الوطني، (من دون مزايدة على أحد في المسألة الوطنية)، من أجل مناقشة هذا الموضوع بصراحة ووضوح وشفافية ومسؤولية عالية، وستكون نخبنا عندئذ قد خطت خطوة هامة باتجاه "تبيئة" (على حدّ تعبير المفكّر المغربي محمد عابد الجابري) المطلب الديمقراطي أو لنقل "تعريبه" مثلما عربنا العلوم والاداب والطب والرياضيات وغيرها.. فهل تقدم نخبنا على هذا الامر، أم تبقى على تشبثها ب"الامل الخارجي"، لانه الايسر والاسرع، لكنه لن يكون الاثبت في كل الاحوال، والتجارب من حولنا خير دليل على ذلك؟؟..