دخول وحدة متنقلة للإنعاش الطبي حيز العمل بالمزونة    بنزرت: استكمال أشغال تهيئة وتجديد مركز طب النساء والتوليد وطب الاطفال والرضع ببنزرت نهاية جانفي المقبل    وزير الدّفاع يؤدي زيارة ميدانية إلى القاعدة البحرية بمنزل بورقيبة    الشركة الوطنيّة للسكك الحديديّة التّونسيّة:عدم تسجيل أية أضرار على إثر جنوح قطار المسافرين تونس - غار الدماء    الليلة: الحرارة تتراوح بين 6 و23 درجة    شكونوا المالي تراوري حكم مباراة تونس و نيجيريا في كان 2025 ؟    هذه الدولة العربية تسجّل أعلى أسعار السيارات الجديدة    محرز الغنوشي: الغيث النافع قادم والوضعية قد تتطور الى انذارية بهذه المناطق    ابدأ رجب بالدعاء...اليك ما تقول    منع بيع مشروبات الطاقة لمن هم دون 18 عاما..ما القصة..؟    ماذا في اجتماع وزير التجارة برؤساء غرف التجارة والصناعة؟    زغوان: مجمع الصيانة والتصرف بالمنطقة الصناعية جبل الوسط بئر مشارقة يعلن عن إحداث حقل لانتاج الطاقة الفوطوضوئية    شركة الخطوط الجوية التونسية تكشف عن عرضها الترويجي 'سحر نهاية العام'    خبير يوّضح: العفو الجبائي على العقارات المبنية مهم للمواطن وللبلديات..هاو علاش    يتميّز بسرعة الانتشار والعدوى/ رياض دغفوس يحذر من المتحور "k" ويدعو..    زيت الزيتون ب10 دنانير:فلاحو تونس غاضبون    تعرّف على عدد ساعات صيام رمضان 2026    عاجل: تهنئة المسيحيين بالكريسماس حلال ام حرام؟...الافتاء المصرية تحسُم    وليد الركراكي: التتويج باللقب القاري سيكون الأصعب في تاريخ المسابقة    وفاة ممرضة أثناء مباشرة عملها بمستشفى الرديف...والأهالي ينفذون مسيرة غضب    موسكو تدعو مواطنيها إلى الامتناع عن السفر إلى ألمانيا لهذه الأسباب    فضاء لبيع التمور من المنتج إلى المستهلك من 22 إلى 28 ديسمبر بهذه الجهة..#خبر_عاجل    11 مليون عمرة في شهر واحد... أرقام قياسية من الحرمين    أبطال إفريقيا: الكاف يسلط عقوبة الويكلو على أحد الأندية المغربية    ما ترميش قشور الموز: حيلة بسيطة تفوح دارك وتنفع نباتاتك    بداية من اليوم..دخول فترة الليالي البيض..    أنشطة متنوعة خلال الدورة الأولى من تظاهرة "مهرجان الحكاية" بالمركب الثقافي بسيدي علي بن عون    التمديد في المعرض الفني المقام بالمعلم التاريخي "دار الباي" بسوسة الى غاية منتصف جانفي 2026    افتتاح الدورة 57 للمهرجان الدولي للصحراء بدوز    اسكندر القصري ينسحب من تدريب مستقبل قابس    موزّعو قوارير الغاز المنزلي بالجملة يعلّقون نشاطهم يومي 12 و13 جانفي 2026    وداعًا لأسطورة الكوميديا الأمريكية بات فين    عاجل: اليوم القرار النهائي بخصوص اثارة الافريقي ضدّ الترجي...السبب البوغانمي    مع Moulin d'Or : قصّ ولصّق وشارك...1000 كادو يستناك!    رياضة : فخر الدين قلبي مدربا جديدا لجندوبة الرياضية    عاجل: هذا ما تقرر في قضية المجمع الكيميائي التونسي..    السجن لطالب بتهمة ترويج المخدرات بالوسط الجامعي..#خبر_عاجل    كأس أمم إفريقيا: برنامج مقابلات يوم غد    عاجل: عاصفة مطرية وثلوج تتجه نحو برشا دُول عربية    هذه أقوى عملة سنة 2025    تحذير خطير للتوانسة : ''القفالة'' بلا ورقة المراقبة يتسببلك في شلل و نسيان    سهرة رأس العام 2026.. تفاصيل حفل إليسا وتامر حسني في هذه الدولة    عاجل/ كأس أمم أفريقيا: الاعلان عن اجراء جديد يهم جميع المباريات..    ينشط بين رواد والسيجومي: محاصرة بارون ترويج المخدرات    صحفي قناة الحوار التونسي يوضح للمغاربة حقيقة تصريحاته السابقة    نانسي عجرم ووائل كفوري ونجوى كرم يحضروا سهرية رأس السنة    عاجل/ تركيا ترسل الصندوق الأسود لطائرة الحداد إلى دولة محايدة..    بداية من من غدوة في اللّيل.. تقلبات جوية وبرد شديد في تونس    النوبة القلبية في الصباح: علامات تحذيرية لازم ما تتجاهلهاش    رئيس الجمهوريّة يؤكد على ضرورة المرور إلى السرعة القصوى في كافّة المجالات    ويتكوف يكشف موعد المرحلة الثانية من اتفاق غزة    ترامب مهاجما معارضيه في التهنئة: عيد ميلاد سعيد للجميع بما في ذلك حثالة اليسار    كوريا الشمالية تندد بدخول غواصة نووية أمريكية إلى كوريا الجنوبية    فوز المرشح المدعوم من ترامب بالانتخابات الرئاسية في هندوراس    اليوم العالمي للغة العربية ... الاحتفاء بلغة الضاد ضرورة وطنية وقومية لحماية الهوية الثقافية    تزامنا مع العطلة: سلسلة الأنشطة الثقافية والترفيهية الموجهة لمختلف الفئات العمرية    مع الشروق : تونس والجزائر، تاريخ يسمو على الفتن    برّ الوالدين ..طريق إلى الجنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمريكا بين دوامة الرعب المحلي والمعالجة الأمنية.. والتيار النقدي الجديد...
بعد 6 سنوات على أحداث الحادي عشر من سبتمبر: (1 3):
نشر في الصباح يوم 11 - 09 - 2007

من المستنقع العراقي إلى العلقم الأفغاني وتشنج الموقف السياسي الرسمي
تونس - الصباح
ست سنوات مرت على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، عرف العالم خلالها تطورات لافتة، لامست قضايا مختلفة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية وحضارية بشكل عام..
ست سنوات أعيد خلالها طرح أسئلة ظن المثقفون والمفكرون، بل حتى السياسيون، أن زمنها ولىّ وانقضى، على غرار أسئلة الهوية.. والدين.. والسياسة والأخلاق.. والاستعمار.. والحروب الطائفية.. والتدخل الخارجي.. وغيرها..
ست سنوات حمي فيها وطيس قضايا قديمة جديدة، مثل مسألة حقوق الإنسان.. والديموقراطية.. و"الإسلام السياسي".. والتطرف.. والإرهاب.. ومفهوم السيادة الوطنية.. وبنية الدولة الحديثة.. والخيط الرابط بين التغيير السياسي والعلاقة مع الخارج.. ودور المؤسسة العسكرية في علاقة بالتحولات السياسية في المجتمعات الحديثة.. فيما حضرت بقوة ملفات تخص الصراع الأوروبي الأمريكي.. و"مشروع الشرق الأوسط الجديد"، والتوازنات الإقليمية.. وقضية النفط.. و"تدويل" الصناعة العسكرية التي باتت همّا دوليا غير مسبوق، على الرغم من انتهاء الحرب الباردة وتداعياتها العسكرية والسياسية، أو هكذا كان يجري الاعتقاد صلب دوائر صنع القرار السياسي في العالم..
لكن السنوات الست المنقضية شهدت من ناحية أخرى، بروز مشكلات كانت إفرازا طبيعيا لتفجيرات أيلول عام 2001، عندما أفاق العالم على أضخم وأعلى برج في العالم وهو يتهاوى كما تتهاوى جبال الثلج تحت لفيح الشمس الحارقة، لتضرب في العمق، أحد رموز القوة الأمريكية وجبروتها وهيمنتها وسطوتها الاقتصادية والسياسية والثقافية في العالم..
فالسقوط المدوّي للعراق.. وحرب الاستنزاف التي لم تنته بعد في أفغانستان بين الولايات المتحدة من جهة، وحركة "طالبان" وتنظيم "القاعدة" من جهة أخرى.. والشرخ الموجود في مستوى المشهد الفلسطيني.. والأزمة السياسية والدستورية في لبنان، في أعقاب ما يعرف ب"حرب تموز" بين حزب الله اللبناني والجيش الإسرائيلي.. والوضع المعقد في السودان.. إلى جانب الأزمة الأمريكية الغربية مع إيران، على خلفية الملف النووي الذي يخفي وراءه الكثير من الملفات الإقليمية، ببعديها الآسيوي والشرق أوسطي.. كل ذلك وغيره يعكس عمق المشكلات التي تفجرت أمام العالم في وقت قياسي للغاية، وفي ظرفية دولية خارجة للتوّ من حرب باردة لم تخلف وراءها سوى مزيد من التعقيدات والمشكلات والملفات المستعصية..
في مقابل ذلك، عرفت السنوات الست الماضية، سقوط عروش عديدة بسبب الوضع العراقي أو على خلفيته، وشهد العالم صعود قوى جديدة اقتصادية وسياسية هامة، وتمت عولمة ما يسمى ب "الإرهاب"، وسيطرت "المعالجات الأمنية" على حساب التعاطي السياسي مع مشكلات هي سياسية بالأساس، ودخل مفهوم "المقاومة" ضمن ساحة الجدل الفكري والسياسي على الصعيد العالمي، وبدأت "الديموقراطية" تتسلل باتجاه أنظمة كانت إلى وقت قريب في عداد الدول المنسية، وتعاظم دور المجتمع المدني إلى حد التضخم أحيانا، بحيث بات عبئا على بعض الدول، ومؤذنا بخراب العمران بالنسبة للبعض الآخر، فيما هو يمثل في نظر قسم آخر من المراقبين، بصيص أمل وسط وضع يخيم عليه اليأس والخوف والاستقالة واللامبالاة وعمليات التهميش الاجتماعي والسياسي السائدة في أكثر من بقعة من العالم.. تلك هي الصورة الماثلة أمام أكثر من عين ترقب الوضع الدولي خلال الفترة التي أعقبت تفجيرات نيويورك وواشنطن منذ نحو ستة أعوام.. صورة تؤشر لولادة "نظام دولي جديد" كما يبشر بذلك فلاسفة الفكر الإستراتيجي، على الرغم من أن هذا النظام الجديد طال مخاضه، بحكم الفواجع والمفاجآت التي يصطدم بها بين الحين والآخر، والتي تجبره على تأخير عملية الوضع إلى حين غير معلوم...
الوضع الأمريكي: الشرارة الأولى
لكن هذا الوضع الدولي المتأزم، لم يأت من فراغ، بقدر ما هو انعكاس لحالة أمريكية، خلفتها تفجيرات 11 9 2001، التي أدخلت البيت البيضاوي في سياق محلي ودولي جديدان لا يبدو أن إدارة الرئيس الجمهوري بوش الابن، قد خرجت منه أو بصدد تجاوزه، بل هي على العكس من ذلك تماما، تزداد غرقا يوما بعد آخر، بعد أن اكتوت بالنار العراقية، وذاقت مرارة العلقم الأفغاني على نحو لافت، كما يرى المراقبون ليس خارج الولايات المتحدة فحسب، وإنما صلب المحللين والسياسيين والنخب الأمريكية أولا وأساسا..
كان حلم الإدارة الجديدة، بصقورها المختلفة تشييد "إمبراطورية أمريكية"، على أنقاض البرجين اللذين تهاويا ذات فجر سبتمبري، غير أن الخيط الرئيسي الذي يسمح بتشييد هذه الإمبراطورية، ضاع على ما يبدو وسط ثنايا عنكبوتية قد لا تتوفر إمكانية الخروج منها في الأفق القريب على الأقل، في ضوء التطورات السياسية والعسكرية في أكثر من خندق في العالم حفرته الإدارة الأمريكية من دون أن تفكر في كيفية ردمه أو التخلص منه...
إنه المشهد الأمريكي الراهن وربما كان أعقد من ذلك في تفاصيله وحيثياته، حيث تبدو الولايات المتحدة، دولة تتقاذفها أمواج عديدة: فهناك الخوف الذي بات بمثابة الخبز اليومي الذي يقتات منه الأمريكيون، من خلال إخراج هوليودي رسمي تقف وراءه لوبيات سياسية وإعلامية ومالية "عتيدة"، وهناك هاجس الأمن، الذي يسيطر على كل شيء بدون استثناء، وبخاصة على الواقع المعيشي اليومي للمواطن الأمريكي، الذي يقرأ له ألف حساب ضمن دوائر القرار السياسي في الإدارة الأمريكية.. فيما تعيش الولايات المتحدة على وقع كتابات تيار نقدي جديد بدأت ملامحه تتبلور من خلال عديد المقالات الصحفية وبعض الكتب السياسية والفعاليات الجامعية، خلال السنوات الأربع الأخيرة، بل إن هذا التيار، بدأ يكتسح الطبقة السياسية ذاتها، كما تعكسه تصريحات بعض الشخصيات السياسية والبرلمانية. ولاشك أن التداعيات السلبية للحرب الأمريكية على العراق وتطوراتها الراهنة، والفشل العسكري والاستخباراتي في أفغانستان، وفي مجال مكافحة ما تسميه الإدارة الأمريكية ب " الإرهاب"، جعل السفينة الأمريكية في مواجهة يومية لأمواج عاتية، أضرت بسمعة السياسة الخارجية الأمريكية التي أضحت جزءا من أزمة السياسة الدولية، وأحد أرقامها المعطلة...
لقد لامست شخصيا هذا "المثلث" المهيمن على المشهد الأمريكي، عندما تيسرت لي زيارة الولايات المتحدة قبل ثلاثة أعوام..
فحيثما كنت، سواء في واشنطن (العاصمة السياسية للولايات المتحدة) أو في بوسطن، الولاية التي توصف ب "العقل المفكر" لأمريكا بحكم تمركز النخب والجامعيين فيها (أكثر من مائة جامعة)، أو في نيويورك، التي حصلت فيها تفجيرات "الثلاثاء الأسود" كما يسميه الأمريكيون، في كل هذه الولايات وغيرها، يبدو الأمن، هو اللغة المهيمنة في الولايات المتحدة، بما يعكس حالة الهلع والحذر اللذين يتملكان الإدارة الأمريكية وأصحاب القرار في المؤسسة الأمنية.
قد يتساءل المرء، لماذا لم يتخلص جهاز الأمن الأمريكي من هذا الهاجس، على الرغم من مرور أكثر من خمسة أعوام على تلك الأحداث الأليمة التي هزت أركان العرش الأمريكي كما لم يحصل من قبل؟
سيناريو محسوب
هنا بالذات بيت القصيد#0236
ذلك أن الهاجس الأمني، بل هذه الدوامة التي لا تكاد تنتهي، لا تبدو اعتباطية، إنها ترتبط بسيناريو كامل، يرمي بالأساس إلى جعل المجتمع الأمريكي، حذرا متوجسا وعلى درجة عالية من الحيطة، وذلك بغاية تمرير اختيارات سياسية وأمنية في غاية الخطورة، ليس بوسع الإدارة الأمريكية إقناع شعبها بها من دون جعله عنصرا في هذه الدوامة الأمنية وطرفا "فاعلا" فيها. وهذا بالضبط ما حصل... لقد بلع الأمريكيون "حبة" الأمن هذه، حتى باتوا في حالة خوف دائم، ونشطت اللوبيات المتمركزة بطبيعتها صلب دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، فقامت بصب الزيت على النار التي اكتوى بها الأمريكيون، والنتيجة الحتمية لذلك، تشكيل وعي شعبي يربط بين حالة الخوف ومصدره (أي العرب والمسلمين)، وبالتالي توفير مسوغ لتلك اللوبيات للإجهاز على القضايا العربية وتبرير بعض السياسات والاختيارات العسكرية، خاصة منها الاستمرار في احتلال العراق..
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: لماذا بقي الأمريكيون مرتهنين لهذه اللوبيات؟ أما آن الأوان لكي يحقق الشعب الأمريكي، ما يسميه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي ب"الاستقلال التاريخي" للذات الأمريكية، عن هذه اللوبيات المتحكمة في عديد المؤسسات المالية والإعلامية وأجهزة صنع القرار في الولايات المتحدة؟
تيار جديد
إن جولة في المؤسسات الأمريكية الرسمية وفي الصحف والمؤسسات الإعلامية والجامعية فضلا عن الرأي العام الأمريكي، تكشف للمرء أن لحظة الوعي بهذا "الاستقلال التاريخي" بدأت تشق طريقها نحو العقل الأمريكي، وخصوصا لدى قسم من الجامعيين والنخب الثقافية والإعلامية الذي أخذ يتعاظم شيئا فشيئا، فيما يمكن أن نسميه ب"ولادة تيار نقدي" في الولايات المتحدة، تشكل تحت ضغط التطورات التي شهدتها السنوات الماضية، وخاصة منها أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والاختراق الأمريكي لأفغانستان وما تبعها من احتلال للعراق، وقيادة الإدارة الأمريكية للمعركة العالمية ضد ما تسميه "الإرهاب"... فقد برز هذا التيار للعيان كخطاب جديد نجح في اختراق الجدران السميكة التي بنتها اللوبيات منذ عقود طويلة حول الإعلام والحياة الثقافية والفكرية في الولايات المتحدة.. وبدأ هذا التيار يكتسب "شعبية" و"أنصارا" في الأوساط الجامعية وحتى صلب الرأي العام الأمريكي، ليس لكونه برز في وقت دقيق يتميز بتراجع أداء إدارة الرئيس بوش الابن، نتيجة الفشل الذي منيت به سواء في أفغانستان أو العراق أو فلسطين أو حتى في إيران التي لم تنجح إلى حد الآن في اختراقها رغم كل المحاولات، وإنما لأن هذا التيار مستقل تماما عن الحزبين التقليديين في البلاد، فهو لم يخرج من معطف الحزب الجمهوري ولم تفرزه خميرة الحزب الديموقراطي، بقدر ما أطل بانتقاداته بشكل مستقل ومحدود في البداية قبل أن يكبر ويتوسع بشكل تدريجي لكنه ثابت ومحسوب.
ونجح هذا التيار النقدي، في التعامل مع الرمال المتحركة والملفات التي باتت بمثابة التابوهات في الإعلام الأمريكي، مثل مستقبل اللوبيات اليهودية المتحكمة بعملية صنع القرار في الولايات المتحدة، والملف الأمني الداخلي، وموضوع العراق وأفغانستان، وهي الموضوعات التي لم تتمكن الإدارة الأمريكية الحالية من الإمساك بها، أو التحكم فيها فظلت تتخبط فيها -إلى الآن - خبط عشواء..
هزة إيجابية
لقد بدأ هذا "التيار" سياسة " العد والإحصاء" ضد نهج الإدارة الأمريكية بصقورها وحمائمها على حد السواء، وذلك من خلال التعاطي مع القضايا الكبرى التي تمثل هوية الولايات المتحدة في المرحلة الراهنة، ونعني بذلك الأمن والعراق وما بعد 11 سبتمبر.
هناك قسم من المثقفين المستنيرين ممن بدأوا يتعاطون نقديا مع تخوفات الإدارة الأمريكية وسياستها الخارجية، فهم يعتبرون أن الحذر الأمني الشديد الذي تمارسه السلطات الأمنية أمر مبالغ فيه، بل هو جزء من البروباغندا السياسية للإدارة الحالية.. فهذه الدوامة من الإجراءات الأمنية التي لم تنته منذ تفجيرات 11/9، تعد شكلا من أشكال الابتزاز السياسي للموقف الشعبي، أكثر منه تهديدا حقيقيا ومستمرا للشعب الأمريكي..
ليس معنى ذلك أن المخاطر الأمنية زالت أو أن الأمريكيين نسوا ذلك اليوم "الأسود"، فليس ثمة في الولايات المتحدة من نسي أو هو مستعد لكي ينسى تفجيرات نيويورك وواشنطن، بل لا يبدو أن ما جرى في ذلك اليوم ، سيمحى من ذاكرة الأمريكيين باختلاف مواقعهم وتباين أفكارهم ومواقفهم من الإدارات المتداولة على البيت الأبيض.
ولكن الجديد فعلا، هو هذه الهزة الإيجابية في الرأي العام الأمريكي بنخبه ومثقفيه وسياسييه، هزة جعلت هذا التيار الجديد يضع العديد من الإجراءات والقرارات والسياسات موضع استفهام وتأويل. فلم يعد ثمة مسلمات بين الرأي العام وحكومته، بل إن الأمريكيين اقتربوا من السياسة التي باتت إحدى همومهم ومشاغلهم، فالحادي عشر من سبتمبر غير علاقة الناس بالسياسة، وبمجريات الأمور في الداخل الأمريكي، بحيث باتوا معنيين بكل ما يحصل في العالم ويتوقعون تأثيره على حياتهم اليومية مهما كان بعيدا جغرافيا..
لقد شق قسم هائل من الرأي العام الأمريكي عصا الطاعة عن تلك السياسة الرسمية التي حرصت عليها الحكومات الأمريكية المتعاقبة بلونيها الجمهوري والديموقراطي، والمتمثلة في" أن يظل المجتمع الأمريكي غير مستوعب لما يجري من حوله في العالم، مجتمعا منغلقا إعلاميا وسياسيا، يجهل الجغرافيا ولا يعبأ بالتاريخ" مثلما يقول جين مارتر مدير المركز الدولي "فريدوم فوروم" في واشنطن..
زواج جديد
من هنا يفهم المرء، الاتجاه الذي ذهبت فيه هذه الحركة النقدية الجديدة.. فهي أرادت اختراق هذه السياسة من أجل "زواج" جديد بين الرأي العام الأمريكي والقضايا الدولية، زواج يمكن من إعادة ترتيب العلاقة بين الحكومة وشعبها وبين الشعب الأمريكي وقضايا الشعوب الأخرى. إنه "زواج هوية"، لذلك تعاطت هذه الحركة النقدية مع ملفات، يعتقد في الظاهر أنها سياسية وعسكرية فحسب، ولكنها في عمقها تمس جوهر الاستراتيجيا الأمريكية، بل تمس مكونات صنع القرار في الولايات المتحدة، ومن بينها اللوبيات وجماعات الضغط التي تعرضت - وما تزال الى الآن - الى " انتقادات الكثير من الصحف ضمن سؤال رئيسي هو: الى أين نذهب في ظل هيمنة اللوبيات على الصحافة؟" (روبير دارن، أستاذ الصحافة في إحدى جامعات فلوريدا).
لقد بدأت هذه الأصوات تنادي بمراجعة تدخل جماعات الضغط هذه، على اعتبار أنها أوجدت حالة من التشنج في الموقف الأمريكي على الصعيد الدولي، ويعتقد هؤلاء أن اللوبيات خاصة الصهيونية منها "لوثت" بل "زيفت" بعض الملفات، على غرار الملف العراقي، من خلال القول بوجود أسلحة دمار شامل في العراق، لتبرير إعلان الحرب الأمريكية على بلاد الرافدين، وهو ما يفسر تلك "المحاكمة" التي نصبها الكونغرس الأمريكي قبل عامين ضد وولفوفيتز، أحد "قساوسة" الفريق الصهيوني صلب إدارة البيت الأبيض، الذي يلقب في الصحافة الأمريكية ب "مهندس الحرب على العراق"، فكانت تلك بداية النهاية لشهر عسل اللوبيات داخل أجهزة صنع القرار الأمريكية، وفي صلب المجتمع الأمريكي ذاته..
العراق
لقد تحول الموضوع العراقي الى مسمار صدئ بدأ ينخر عظام السياسة الأمريكية. وما يقض مضجع إدارة الرئيس بوش فعلا، هو غياب حل يمكن أن يرضي العراقيين (؟!) ويسكت الأمريكيين ويقنع المجتمع الدولي، وهو حل لا يبدو أن الإدارة الحالية قادرة عليه. بل حتى الخروج من العراق بات اليوم مشكلا عويصا، لأن التكاليف السياسية والأخلاقية لعملية الخروج تبدو باهظة جدا للفريق الحكومي الراهن واللفيف الصهيوني صلبها، والحزب الجمهوري برمته، ولذلك يتحرج بوش الابن من الدعوات التي تطلق من حين لآخر في بعض العواصم الأوروبية والعربية بضرورة إخلاء التراب العراقي من الجندرمة الأمريكيين.
فشل في أفغانستان
وفي الواقع ليس ملف العراق وحده الذي أصبح محور انتقادات التيار الجديد، فهناك المسألة الأفغانية التي ينظر إليها على أنها "الموضوع المنسي" في اهتمامات الحكومة الأمريكية، وثمة تداعيات الحادي عشر من سبتمبر التي أصبحت مادة للسخرية والنقد اللاذع. ذلك أن الشيخ / أسامة بن لادن ما يزال حيا يتحرك بين تضاريس الجبال الأفغانية الوعرة وتعرجات الأزقة والأنهج الواقعة على الحدود مع باكستان، وتنظيم "القاعدة" لم يتم تفكيكه كما وعد بذلك بوش، بل عاد بقوة على المسرح الميداني الأفغاني، وامتد ليخترق العراق ومنطقة المغرب العربي... كما أن خطة مقاومة "الإرهاب" لم تنجح الى الآن في الحيلولة دون وقوع الهجمات والتفجيرات التي تحصل هنا وهناك بين الفينة والأخرى.
ومما زاد الأمر تعقيدا، أن كل ذلك يحصل رغم توفر الآلة الأمنية والاستخباراتية التي نصبتها الولايات المتحدة في أفغانستان، إلى الحد الذي جعل الأمريكيين غير واثقين من قدرة التكنولوجيا الضخمة والمتطورة التي يجري استخدامها اليوم، على حمايتهم، على اعتبار أن الإرادة الإنسانية غير الرقمية، قادرة على تحقيق اختراق للمنظومة الإلكترونية في أيّة لحظة..
لقد أوجد هذا التيار حالة من "التوتر الإيجابي" في العلاقة بين جزء من الرأي العام الأمريكي، وطابور من الصحافة المحلية المملوكة من لوبيات ذات مصالح متعددة، مستثمرا حالة الوهن الذي تعيشه الحكومة الأمريكية خاصة فيما يتعلق بإدارة الملفات السياسية التي أتينا عليها آنفا.إن الأمر يتعلق حينئذ ببداية تحول في المعادلة الداخلية، تؤشر لنهاية تلك التقاليد العجاف التي كرستها اللوبيات المختلفة، وطبعت بها الصحافة الأمريكية طوال عقود طويلة...
استقلالية = مصداقية
ومما زاد هذا التيار النقدي مصداقية، استقلاليته السياسية عن الحزبين اللذين يتداولان على الحكم في الولايات المتحدة منذ عقود طويلة.. وهو ما يؤشر لتحول هذا التيار الى ما يشبه "الطريق الثالث" في مورفولوجيا السياسة الأمريكية..
إن "الطريق الثالث" هذا، يجسد عمليا لحظة الوعي الأمريكي النقية التي لم تلطخها دماء العراقيين والأفغان، ولم تصب ب "فيروس الحرب الاستباقية والوقائية"، ولم تنل منها "عولمة الرعب" التي بدأت تغزو الساحة السياسية الدولية في مقابل "الإرهاب المعولم".
إن هذا التيار بات جزءا لا يتجزأ من المشهد الثقافي والإعلامي في الولايات المتحدة، لذلك لم يتردد صديق عربي في نيويورك في القول بأن رموز هذا التيار " تعد من بركات 11 أيلول "إذا طبقنا مقولة "رب ضارة نافعة"...
تلك هي أمريكا بعد سبتمبرين : سياسات أمنية في الداخل وعسكرية في الخارج، حالة هلع ورعب مجتمعية لم تعرفها البلاد طوال تاريخها، فقه سياسي جديد قوامه تزييف الحقائق، لوبيات تمتهن قهر الشعوب المستضعفة وإذلالها بغير وجه حق، وإدارة "بيضاء" مرتبكة، في مقابل نخب بدأت تنفض غبار الصمت، وصحافة تحاول الخروج من تيهها الذي تردت فيه.. والسؤال المطروح هو : هل يتمكن "الطريق الثالث" الجديد من أن يكون قصبة النجاة لشعب يتحمل وزر ساسته؟
لكن من ناحية أخرى، ما هي تداعيات الحدث على الصعيد الدولي؟ كيف تغيرت التوازنات السياسية في العالم بعد هذه السنوات الست من تفجيرات 11 9؟ ما هي تأثيرات الوضع العراقي على الاتجاهات الإستراتيجية للسياسة الدولية؟
أسئلة سنجيب عليها في تقرير قادم...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.