الحلقة الأولى لقد أصبحت قضية الرشوة المثارة من طرف رئيس شبيبة العمران راضي سليم ضد رئيس مستقبل قابس رياض الجريدي حديث الخاص والعام باعتبارها شغلت كافة الرياضيين، في الحقيقة موضوع الإرشاء والارتشاء أي «الرشوة» أو ما يعرف عند الجمعيات الرياضية بالبيع والشراء للمقابلات الرياضية أو التلاعب بالنتائج ليس موضوعا جديدا وهو ظاهرة عالمية وغير خاصة بالرياضة التونسية وقد حررنا فيه العديد من المقالات القانونية على أعمدة «الصباح» الغراء، وعودتنا اليوم لنفس الموضوع سببه اتصال العديد من القراء متسائلين عن الرأي القانوني حول هذه الظاهرة المعضلة التي أصبحت تهدد الرياضة التونسية وبالخصوص كرة القدم. لقد انطلقت وقائع قضية الحال «باتهام صادر عن رئيس شبيبة العمران راضي سليم يؤكد فيه أن لاعبين إثنين من الفريق أدلى كل منهما بشهادة ممضاة في البلدية تفيد تسلمه مبلغا ماليا قدره 250 دينارا من رئيس مستقبل قابس كتسبقة على عملية تخاذل ستعقبها مكافأة مالية بألف دينار اثر انتهاء اللقاء وانجاز المهمة. وردت هيئة «الجليزة» على الادعاء بأنه باطل وكيدي وأن حملة مغرضة ومفتعلة وستسعى للتصدي لها بالطرق القانونية حسبما يستروح من الرسالة المفتوحة الصادرة عن الكاتب العام لهيئة مستقبل قابس والمنشورة بجريدة «الصباح» في عددها الصادر يوم الخميس الماضي، إن الأسئلة التي تتبادر للذهن منذ الوهلة الأولى: هل أن رئيس «الجليزة» يعتبر «مدانا حتى يثبت براءته» وما هي الدفوعات التي يمكن أن يتمسك بها لإبراء ذمته من «التهمة الشنيعة» الموجهة له من طرف رئيس شبيبة العمران وما هو القانون المنطبق في صورة إحالة ملف القضية إلى المحكمة؟ I - رياض الجريدي يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته طبق مقتضيات الفصل 12 من الدستور التونسي: «كل متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته في محاكمة تكفل له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه» طبق ما تنص عليه احكام الفصل 12 من الدستور التونسي وانطلاقا من هذا النص القانوني فإن رياض الجريدي يعتبر بريئا طالما لم تثبت إدانته بموجب حكم بات باعتباره يتمتع بقرينة دستورية هي قرينة البراءة. ويرى شراح القانون ومن بينهم الدستور عبد الله الأحمدي أن هذه القرينة تستمر أثناء كامل مراحل الأبحاث إلى صدور حكم في الأصل عن المحكمة ولا تزول حتى في صورة إحالة المضنون فيه على المحكمة بموجب قرار ختم البحث أو قرار دائرة الاتهام أو إحالة صادرة عن النيابة العمومية المتعهدة بالقضية لأن مهمة هيئة التحقيق تنحصر في البحث عن أدلة كافية ضده ويفسر بعض شراح القانون هذا الاتجاه بأن قرينة البراءة ضرورية لحرية المتهم للدفاع عن نفسه لمواجهة النيابة العمومية. يراجع في هذا الشأن: (كتاب حقوق الإنسان والحريات العامة في القانون التونسي لصاحبه الدكتور عبد الله الأحمدي) وأيضا (JEAN PRADEL: Procédure pénale, Cajas, quatrième édition, n!252) وقد تبنى الاعلان العالمي لحقوق الإنسان هذه القرينة بالفقرة الأولى من المادة الحادية عشر. كما تبنى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية نفس المبدأ المتعلق بقرينة البراءة بالفقرة الثانية من المادة 14 كما أكد الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن نفس المبدأ بالفصل 9 منه. وبناءا على ما تقدم بسطه وخلافا للإدانة الموجهة من البعض إلى رياض الجريدي فإن هذا الأخير يتمتع بقرينة البراءة التي أتت لحماية حرية المتهم وضمان حقوق دفاعه وبالتالي فإن رئيس «الجليزة» لا يتحمل عبء إثبات براءته بل من يتحمل إثبات التهمة هي النيابة العمومية رأسا أو رئيس شبيبة العمران باعتباره شاكيا أو قائما بالحق الشخصي عند الاقتضاء وعلى هذا الأساس استقر فقه القضاء التونسي صلب القرار التعقيبي عدد 483 بتاريخ 6 أكتوبر 1932، مجلة القضاء والتشريع لعام 1963 الذي جاء فيه: «إن من واجب النيابة إثبات كون الدعوى معاقبا عنها وأنه يلزمه أن يثبت لا وجود التهمة فقط بل أيضا عدم وجود أدنى ظرف آخر في القضية مثل الدفاع الشرعي وكل ما من شأنه محو لكل اثر للجريمة وذلك ان اتضح من واقع القضية ما يجعل هذه الظروف محتملة للوقوع». وانطلاقا من الفصل 12 من الدستور فإن قرينة البراءة مفترضة في رياض الجريدي باعتبار وأن الأصل في كل انسان الاستقامة وسلامة النية طبق ما تقتضيه أحكام الفصل 558 من مجلة الالتزامات والعقود ومن هذا المنحى فإن رئيس الجليزة بوصفه متهما معفى من إثبات براءته من الادعاء الموجه له من طرف راضي سليم ومن حقه التمسك ببراءته في محاكمة عادلة توفر له جميع الضمانات القانونية ويمكن أن يدفع بالتهمة الموجهة ضده بعديد الدفوعات القانونية. II - ما يمكن أن يدفع به رياض الجريدي لدرء تهمة الرشوة الموجهة له من طرف رئيس شبيبة العمران: 1 - الدفع بغياب حالة التلبس: في الحقيقة والواقع لا شيء بملف القضية المثارة الان من طرف راضي سليم ضد رياض الجريدي يستفاد منه وأن هذا الأخير كان في حالة تلبس في قضية الحال باعتباره لم يضبط وهو يسلم الاموال المزعومة للاعبين المنتميين للفريق الشاكي، لكن ما هو مفهوم التلبس، وما هي صوره؟ أ - مفهوم التلبّس: يرى شراح القانون: «إن التلبس صفة متعلقة بالجريمة ذاتها بصرف النظر عن شخص مرتكبيها فيكفي لتوفرها أن يكون شاهدها قد حضر ارتكابها بنفسه وأدرك وقوعها بأية حاسة من حواسه وان يكون هذا الادراك بطريقة يقينية لا تحتمل شكا، ولا يكفيه أن يكون قد تلقى نبأها عن طريق الرواية أو النقل عن الشهود (مثلما هو الشأن في قضية الحال) طالما أن تلك الحالة قد انتهت بتماحي آثار الجريمة والشواهد التي تدل عليها أي أنه يفيد أن الجريمة واقعة وأدلتها ظاهرة بادية واحتمال الخطأ فيها طفيفة والتأخير في مباشرة الإجراءات الجنائية قد يعرقل سبيل الوصول إلى الحقيقة. وضبط الجريمة في حالة تلبس يبرر الخروج على القواعد العامة في الإجراءات الجنائية فالإسراع في اتخاذ الإجراءات خشية ضياع الأدلة، حيث تكون مظنة الخطأ في التقدير أو الكيد للمتهم ضعيفة الاحتمال (انظر كتاب المسؤولية الجنائية في أهم القوانين الخاصة لصاحبيه الاستاذين عزالدين الدناصوري وعبد الحميد الشواربي). وحيث تعرض المشرع الجنائي التونسي إلى حالة التلبس بالفصل 33 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي ينص صراحة على ما يلي: «تكون الجناية أو الجنحة متلبسا بها»: - أولا: إذا كانت مباشرة الفعل في الحالة أو قريبة من الحالة. - ثانيا: إذا طارد الجمهور ذا الشبهة صائحا وراءه أو وجد هذا الاخير حاملا لأمتعة أو وجدت به آثار أو علامات تدل على احتمال إدانته، بشرط وقوع ذلك في زمن قريب جدا من زمن الفعلة. ويشبه الجناية أو الجنحة المتلبس بها كل جناية اقترفت بمحل سكنى استنجد صاحبه بأحد مأموري الضابطة العدلية لمعاينتها ولو لم يحصل ارتكابها في الظروف المبينة بالفقرة السابقة». ب - صور التلبس: حيث بقراءة أحكام النص المذكور يتضح أن حالات التلبس وصوره منصوص عليها على سبيل الحصر ولا يمكن التوسع فيها وهي الحالات والصور التالية: - الحالة الأولى: مشاهدة الجريمة لا الجاني حال ارتكابها. - الحالة الثانية: تتبع الجاني إثر وقوع الجريمة. - الحالة الثالثة: مشاهدة أدلة الجريمة. وحيث يستنتج مما سبق بيانه وأنه «يجب أن تكون الجريمة المتلبس بها حال ارتكابها أو عقب ارتكابها ببرهة يسيرة كما تعتبر الجريمة المتلبس بها اذا اتبع المجني عليه مرتكبها أو تبعته العامة مع الصياح اثر وقوعها أو إذا وجد مرتكبها بعد وقوعها بوقت قريب حاملا الات أو أسلحة أو أمتعة أو أوراق أو أشياء أخرى يستدل منها على أنه فاعل أو شريك فيه أو إذا وجدت به في هذا الوقت آثار أو علامات تفيد ذلك وعلى أية حال فإن شراح القانون يؤكدون وأنه في حالة التلبس يجب أن تكون هناك مظاهر خارجية تنبني بذاتها عن وقوع الجريمة بصرف النظر عما انتهى اليه التحقيق بعد ذلك وهو أمر يدخل في سلطات محكمة الموضوع ما دامت الاعتبارات التي بنت عليها تقديرها صالحة لأن تؤدي للنتيجة التي انتهت اليها» (انظر المرجع السابق: المسؤولية الجنائية في أهم القوانين الخاصة). وحيث يتضح وأن رئيس مستقبل قابس لم يضبط وهو في حالة تلبس من طرف السلطة الأمنية فلا وجود لاتصالات هاتفية تمت بينه وبين اللاعبين المنتميين لجمعية العمران كما هو الحال في قضية الرشوة المرفوعة ضد عضو من نسر طبلبة وفريق هلال مساكن والتي أتينا على شرحها في الإبان (انظر مقالنا: حيثيات قانونية حول بعض المفاهيم والمصطلحات المتصلة بقضية الرشوة المرفوعة ضد عضو من نسر طبلبة المنشور بجريدة «الصباح» الغراء المؤرخة في 23/04/2006) وحتى الشهادتين الممضيتين من قبل اللاعبين التابعين لشبيبة العمران لا تجعل من الرئيس المذكور في حالة تلبس وبالتالي يكون عنصر من عناصر الاتهام قد سقط وهو ركن التلبس الذي يعتبر في جريمة الرشوة من أهم الأركان القانونية لتسليط حكم بالإدانة وفي هذا الشأن يرى شراح القانون: «وإن التلبس يجب أن يكون سابقا عن إجراء التحقيق باعتبار وأنه يجب أن يثبت التلبس أولا حتى يكون لمأمور الضابطة العدلية أن يعمل اثره نتيجة لذلك بأن يقبض على المتهم ويفتشه ويثبت الأشياء لديه. أما إذا حصل العكس بأن اتخذ مأمور الضابطة العدلية إجراء من هذه الإجراءات التي لا يملكها أصلا بغير إذن من سلطة النيابة العمومية في غير الأحوال الجائزة قانونا وأدى ذلك إلى ظهور التلبس فيكون الإجراء باطلا وكذلك التلبس المترتب عليه».